الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ طَارَ الْحَيَوَانُ عَقِيبَ الْفَتْحِ ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ الْحَيَوَانَ طَارَ حِينَئِذٍ بِإِدَارَتِهِ لَا بِالْفَتْحِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَضْمَنُ إلَّا فِي الرِّقِّ إذَا حَلَّهُ فَيَتَبَدَّدُ مَا فِيهِ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ سَبَبُ الْإِتْلَافِ عَادَةً فَتُوجِبُ بِالضَّمَانِ كَسَائِرِ صُوَرِ التَّسَبُّبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] سَقَطَ خُصُوصُ التَّسَبُّبِ بَقِيَ الْغُرْمُ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا إذَا فَتَحَ مَرَاحَهُ فَخَرَجَتْ مَاشِيَتُهُ فَأَفْسَدَتْ الزَّرْعَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ التَّسَبُّبُ وَالْمُبَاشَرَةُ اُعْتُبِرَتْ الْمُبَاشَرَةُ دُونَهُ، وَالطَّيْرُ مُبَاشِرٌ بِاخْتِيَارِهِ لِحَرَكَةِ نَفْسِهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا فَأَرْدَى فِيهَا غَيْرُهُ إنْسَانًا فَإِنَّ الْمُرْدِيَ يَضْمَنُ دُونَ الْأَوَّلِ، وَالْحَيَوَانُ قَصْدُهُ مُعْتَبَرٌ بِدَلِيلِ جَوَارِحِ الصَّيْدِ إنْ أَمْسَكَتْ لِأَنْفُسِهَا لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ أَوْ لِلصَّائِدِ أَكَلَ، وَالْجَوَابُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّائِرَ كَانَ مُخْتَارًا لِلطَّيَرَانِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مُخْتَارًا لِلْإِقَامَةِ لِانْتِظَارِ الْعَلَفِ أَوْ خَوْفِ الْجَوَارِحِ الْكَوَاسِرِ، وَإِنَّمَا طَارَ خَوْفًا مِنْ الْفَاتِحِ وَإِذَا احْتَمَلَ، وَاحْتَمَلَ وَالسَّبَبُ مَعْلُومٌ فَيُضَافُ الضَّمَانُ إلَيْهِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ يَقَعُ فِيهَا حَيَوَانٌ مَعَ إمْكَانِ اخْتِيَارِهِ لِنُزُولِهَا لِفَزَعٍ خَلْفَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّيْدَ لَا يُؤْكَلُ إذَا أَكَلَ مِنْهُ الْجَارِحُ سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ الضَّمَانُ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي تَوَصَّلَ بِهِ الطَّائِرُ لِمَقْصِدِهِ كَمَنْ أَرْسَلَ بَازِيًا عَلَى طَائِرِ غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ الْبَازِي بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ الْمُرْسِلَ يَضْمَنُ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقْتَضِي اخْتِيَارَ الْحَيَوَانِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفَتْحَ سَبَبٌ مُجَرَّدٌ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُبَاشَرَةِ لِمَا فِي طَبْعِ الطَّائِرِ مِنْ النُّفُورِ مِنْ الْآدَمِيِّ، وَأَمَّا إلْقَاءُ غَيْرِ الْحَافِرِ لِلْبِئْرِ إنْسَانًا، وَإِلْقَاؤُهُ هُوَ نَفْسُهُ فِي الْبِئْرِ فَالْفَرْقُ أَنَّ قَصْدَ الطَّائِرِ وَنَحْوِهِ ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» ، وَالْآدَمِيُّ يَضْمَنُ قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ، وَهَاهُنَا مَسْأَلَتَانِ
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) إذَا قُلْنَا بِالضَّمَانِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ يَوْمَ الْغَصْبِ دُونَ مَا بَعْدَهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُعْتَبَرُ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا فَيُضَمِّنُهُ أَعْلَى الْقِيَمِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ إذَا غَصَبَهَا ضَعِيفَةً مُشَوَّهَةً مَعِيبَةً بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعُيُوبِ فَزَالَتْ تِلْكَ الْعُيُوبُ عِنْدَهُ فَعِنْدَنَا الْقِيمَةُ وَعِنْدَهُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا أَعْلَى، وَكَذَلِكَ خَالَفْنَا فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَعِنْدَنَا أَوَّلَ يَوْمِ الشُّبْهَةِ وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ أَعْلَى الرُّتَبِ فَيُوجِبُ لَهَا صَدَاقَ الْمِثْلِ فِي أَشْرَفِ أَحْوَالِهَا كَمَا يُوجِبُ أَعْلَى الْقِيَمِ فِي الْغَصْبِ. لَنَا قَاعِدَةٌ أُصُولِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ سَفِينَةٍ بِمَا فِيهَا فَلَا ضَمَانَ وَلَا أُجْرَةَ، وَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ لِيَحْمِلَهُ قَالَهُ مَالِكٌ وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا هَلَكَ بِعِثَارٍ كَالْهَالِكِ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ لِرَبِّ السَّفِينَةِ بِحِسَابِ مَا بَلَغَتْ (وَثَانِيهَا) مَا هَلَكَ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ بِالْبَيِّنَةِ فَلَهُ الْكِرَاءُ كُلُّهُ، وَعَلَيْهِ حَمْلُ مِثْلِهِ مِنْ مَوْضِعِ الْهَلَاكِ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْمَنْفَعَةِ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ (وَثَالِثُهَا) مَا هَلَكَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْعُرُوضِ يُصَدَّقُونَ فِيهِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَلَهُمْ الْكِرَاءُ كُلُّهُ، وَعَلَيْهِمْ حَمْلُ مِثْلِهِ مِنْ مَوْضِعِ الْهَلَاكِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صُدِّقُوا أَشْبَهَ مَا هَلَكَ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَهُمْ مِنْ الْكِرَاءِ بِحَسَبِ مَا بَلَغُوا، وَيُفْسَخُ الْكِرَاءُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ قَوْلِهِمْ أَشْبَهَ مَا هَلَكَ بِعِثَارٍ، وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) مَا كَانَ بِالتَّعَدِّي، وَهُوَ أَنَّ مَالِكًا جَعَلَ عِثَارَ الدَّابَّةِ لَوْ كَانَتْ عَثُورًا تَعَدِّيًا مِنْ صَاحِبِ الدَّابَّةِ يَضْمَنُ بِهَا الْحِمْلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْحِبَالُ رَثَّةً. (وَثَانِيهِمَا) مَا كَانَ لِمَكَانِ الْمَصْلَحَةِ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ، وَهُوَ ضَمَانُ الصُّنَّاعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَجِيرَ لَيْسَ بِضَامِنٍ لِمَا هَلَكَ عِنْدَهُ مِمَّا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى مَا عَدَا حَامِلَ الطَّعَامِ وَالطَّحَّانَ فَإِنَّ مَالِكًا ضَمَّنَهُ مَا هَلَكَ عِنْدَهُ إلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبِهِ، وَمَشْهُورُ مَالِكٍ فِي صَاحِبِ الْحَمَّامِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ.
وَقَدْ قِيلَ يَضْمَنُ، وَشَذَّ أَشْهَبُ فَضَمَّنَ الصُّنَّاعَ مَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَلَاكِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُمْ وَلَا تَفْرِيطٍ، وَأَمَّا مَا ادَّعَوْا هَلَاكَهُ مِنْ الْمَصْنُوعَاتِ الْمَدْفُوعَةِ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَضْمِينِهِمْ فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ يَضْمَنُونَ مَا هَلَكَ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ مَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَلَا الْخَاصِّ، وَيَضْمَنُ الْمُشْتَرِكُ وَمَنْ عَمِلَ بِأَجْرٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي الْمُشْتَرِكِ وَالْخَاصِّ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَصِبْ لِلنَّاسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْخَاصِّ، وَهُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ ضَامِنٍ، وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى هَذَا أَنَّ الصَّانِعَ الْمُشْتَرِكَ يَضْمَنُ سَوَاءٌ عَمِلَ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَبِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ قَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَإِنْ كَانَ قَدْ اُخْتُلِفَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ، وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَرَ الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ شَبَّهَ الصَّانِعَ بِالْمُودَعِ عِنْدَهُ وَالشَّرِيكِ وَالْوَكِيلِ وَأَجِيرِ الْغَنَمِ، وَمَنْ ضَمَّنَهُ فَلَا دَلِيلَ لَهُ إلَّا النَّظَرُ إلَى الْمَصْلَحَةِ وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلُوا بِأَجْرٍ أَوْ لَا يَعْمَلُوا بِأَجْرٍ فَلِأَنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ أَجْرٍ إنَّمَا قَبَضَ الْمَعْمُولَ لِمَنْفَعَةِ صَاحِبِهِ فَقَطْ فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ، وَإِذَا قَبَضَهَا بِأَجْرٍ فَالْمَنْفَعَةُ لِكِلَيْهِمَا فَغُلِّبَتْ مَنْفَعَةُ الْقَابِضِ فَأَشْبَهَ الْقَرْضَ وَالْعَارِيَّةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لَمْ