فَتَحْصِيلُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنْ دَرْءِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ لِشَرَفِ الْعِبَادَةِ وَخِفَّةِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ النَّوْعُ الثَّالِثُ مَشَقَّةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَمَا قَرُبَ مِنْ الْعُلْيَا أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ وَمَا قَرُبَ مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يُوجِبْهُ وَمَا تَوَسَّطَ يُخْتَلَفُ فِيهِ لِتَجَاذُبِ الطَّرَفَيْنِ لَهُ فَعَلَى تَحْرِيرِ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ تَتَخَرَّجُ الْفَتَاوَى فِي مَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ.
فَائِدَةٌ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَخْتَلِفُ الْمَشَاقُّ بِاخْتِلَافِ رُتَبِ الْعِبَادَاتِ فَمَا كَانَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ أَهَمُّ يُشْتَرَطُ فِي إسْقَاطِهِ أَشَدُّ الْمَشَاقِّ أَوْ أَعُمُّهَا فَإِنَّ الْعُمُومَ بِكَثْرَتِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْعِظَمِ كَمَا يَسْقُطُ التَّطَهُّرُ مِنْ الْخَبَثِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَهَمُّ الْعِبَادَاتِ بِسَبَبِ التَّكْرَارِ كَثَوْبِ الْمُرْضِعِ وَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَكَمَا سَقَطَ الْوُضُوءُ فِيهَا بِالتَّيَمُّمِ لِكَثْرَةِ عَدَمِ الْمَاءِ وَالْحَاجَةِ إلَيْهِ أَوْ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ وَمَا لَمْ تَعْظُمْ مَرْتَبَتُهُ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ تُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَشَاقُّ الْخَفِيفَةُ وَتَحْرِيرُ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَطَّرِدُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَأَبْوَابِ الْفِقْهِ فَكَمَا وُجِدَتْ الْمَشَاقُّ فِي الْوُضُوءِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ وَمُتَّفَقٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فَكَذَلِكَ تَجِدُهُ فِي الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَوَقَانِ الْجَائِعِ لِلطَّعَامِ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ وَالتَّأَذِّي بِالرِّيَاحِ الْبَارِدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ وَالْمَشْيِ فِي الْوَحْلِ وَغَضَبِ الْحُكَّامِ وَجُوعِهِمْ الْمَانِعَيْنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْفِكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ فِي الْبَيْعِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.
(سُؤَالٌ) مَا ضَابِطُ الْمَشَقَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي التَّخْفِيفِ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّا إذَا سَأَلْنَا الْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــSقُلْتُ: مَا قَالَهُ: فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ: (النَّوْعُ الثَّالِثُ مَشَقَّةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَمَا قَرُبَ مِنْ الْعُلْيَا أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ وَمَا قَرُبَ مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يُوجِبْهُ وَمَا تَوَسَّطَ يُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِيهِ) قُلْتُ: هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ بِالْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّهُ بُنِيَ عَلَى التَّقْسِيمِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ثُمَّ أَدَّاهُ كَلَامُهُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ قِسْمَانِ أَوَّلَانِ وَقِسْمَانِ لَاحِقَانِ بِهِمَا ثُمَّ قِسْمٌ هُوَ الْأَخِيرُ وَهُوَ الْمُتَوَسِّطُ وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ التَّقْسِيمُ الَّذِي هُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي لَا يُفِيدُ وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَوْ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مُتَّفَقٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي الْإِسْقَاطِ أَوْ التَّخْفِيفِ وَمُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ.
قَالَ: (فَائِدَةٌ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَخْتَلِفُ الْمَشَاقُّ بِاخْتِلَافِ رُتَبِ الْعِبَادَاتِ فَمَا كَانَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ أَهَمُّ يُشْتَرَطُ فِي إسْقَاطِهِ أَشَدُّ الْمَشَاقِّ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِيهَا) قُلْتُ: لَمْ يُجَوِّدْ مَسَاقَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَعْتَبِرُ فِي التَّخْفِيفِ مِنْ الْمَشَاقِّ الَّتِي لَا تَسْتَلْزِمُهَا الْعِبَادَاتُ أَشَدَّهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَبَعْضُهُمْ يَعْتَبِرُ مِنْ تِلْكَ الْمَشَاقِّ أَشَدَّهَا وَأَخَفَّهَا وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ أَدَّى مَحْصُولُهَا إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ قَالَ بِالتَّفْصِيلِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَشَدِّ مِنْ الْمَشَاقِّ دُونَ الْأَخَفِّ فِيمَا عَظُمَتْ رُتْبَتُهُ وَاعْتِبَارُ الْأَشَدِّ وَالْأَخَفِّ فِيمَا لَمْ تَعْظُمْ رُتْبَتُهُ قَالَ: (وَتَحْرِيرُ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَطَّرِدُ فِي الصَّلَاةِ إلَى قَوْلِهِ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ.
قَالَ: (سُؤَالٌ مَا ضَابِطُ الْمَشَقَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي التَّخْفِيفِ مِنْ غَيْرِهَا إلَى آخِرِ جَوَابِهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَّا زَيْدًا نَظَرًا لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُسْتَثْنَى هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَوْ عَادَ لِجَمِيعِ الْجُمَلِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لَلَزِمَ تَوَارُدُ عَوَامِلَ عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ نَعَمْ وَجْهُ الشَّافِعِيَّةِ عَوْدُ الْمُسْتَثْنَى الْمُتَأَخِّرِ لِلْجُمَلِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَامِلَ مَا قَبْلَ إلَّا لَا إلَّا بِتَقْدِيرِ اسْتِثْنَاءٍ عَقِبَ مَا قَبْلَ الْأَخِيرَةِ وَيَكُونُ حُذِفَ مِنْ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْحُكْمِ قِيلَ هُوَ أَنَّ الشَّرْطَ اللُّغَوِيَّ سَبَبٌ مُتَضَمِّنٌ لِمَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَشَأْنُهُ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ الْجُمَلِ تَكْثِيرًا لِمَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْمَقْصِدِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَضَمِّنًا لِمَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعُمَّ وَقَدْ عَلِمْت مَا فِيهِ وَقَالَ الْمَحَلِّيُّ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ هُوَ أَنَّ الشَّرْطَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ تَقْدِيرًا لِتَوَقُّفِ الْمَشْرُوطِ عَلَى تَحَقُّقِهِ وَإِنْ تَأَخَّرَ فِي اللَّفْظِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ فِي التَّقْدِيرِ أَيْضًا لِتَوَقُّفِ الْإِخْرَاجِ عَلَى وُجُودِ الْمَخْرَجِ مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَوْدِ الشَّرْطِ إلَى الْجَمِيعِ لِتَقَدُّمِهِ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهِ مَعَ تَأَخُّرِهِ لِأَنَّ لِلتَّقَدُّمِ أَثَرًا فِي عَوْدِهِ إلَى الْكُلِّ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا يَكُونُ مَا عَدَا الْأُولَى مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ تَقَرَّرَ لَهَا الْجَزَائِيَّةِ وَالْعَطْفُ لِلْمُشَارَكَةِ فَيُنَاسِبُ أَنْ تُشَارِكَهَا فِيمَا ثَبَتَ لَهَا بِخِلَافِ الْأَخِيرَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهَا لَمْ تُعْطَفْ عَلَى مَا ثَبَتَ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُذْكَرُ بَعْدَهَا فَلَوْ عَادَ إلَى الْكُلِّ لَصَارَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُشَارِكًا لِلْمَعْطُوفِ فِيمَا ثَبَتَ لَهُ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَضُعِّفَ بِأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِهِ فَقَطْ أَيْ الَّذِي قُصِدَ تَقْيِيدُهُ بِهِ فَيُمْكِنُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَهُ قَيْدًا لِبَعْضِ الْجُمَلِ لَا لِكُلِّهَا اهـ بِتَوْضِيحٍ مِنْ الْعَطَّارِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ السَّادِسُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ تَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ وَتَوَقُّفِهِ عَلَى شَرْطِهِ) كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ قَالُوا: النِّصَابُ سَبَبُ الزَّكَاةِ وَالْحَوْلُ شَرْطُهَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي تَوَقُّفِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا وَانْتِفَائِهِ عِنْدَ انْتِفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَظَرًا لِكَوْنِ السَّبَبِ كَالنِّصَابِ مُنَاسِبًا فِي ذَاتِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْغِنَى وَنِعْمَةِ الْمِلْكِ فِي نَفْسِهِ وَالشَّرْطُ كَالْحَوْلِ لَيْسَ مُنَاسِبًا فِي ذَاتِهِ بَلْ فِي غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِنِعْمَةِ الْمِلْكِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ التَّنْمِيَةِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَاعِدَةُ أَنَّ الشَّرْعَ تَارَةً يُرَتِّبُ الْحُكْمَ عَقِيبَ أَوْصَافٍ تَكُونُ كُلُّهَا مُنَاسِبَةً فِي ذَاتِهَا كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ رَتَّبَ الشَّارِعُ الْقِصَاصَ عَقِيبَهُمَا فَيُجْعَلُ مَجْمُوعُهُمَا عِلَّةً وَسَبَبًا.