إلا العلم النافع الدال على اللَّه تعالى وعلى معرفته وطلب قربه، وذكر اللَّه وما والاه مما يقرب إليه تعالى، فهذا هو المقصود منها.
وقد حلف طوائف من الفقهاء والصوفية أن ما يوجد فيها من هذه العبادات أفضل مما يوجد في الجنة من النعيم؛ لأنه حظ العبد، ومن ثم قال كثيرٌ من المفسرين في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا}: إن الحسنة (لا إله إلا اللَّه) وليس شيءٌ خيرًا منها، ففيه تقديمٌ وتأخيرٌ؛ أي: فله منها؛ أي: بسببها ولأجلها خير.
والصواب: إطلاق ما جاءت به النصوص أن الآخرة خيرٌ من الدنيا مطلقًا؛ لخبر الحاكم: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما إذا أدخل أحدكم إصبعه في اليمِّ، فما خرج منه. . فهو الدنيا" (?) فهذا نصٌّ بتفضيل الآخرة على الدنيا وما فيها من الأعمال، إذ كمال الدنيا إنما هو في العلم والعمل، فالعلم يتضاعف في الآخرة بما لا نسبة لما في الدنيا إليه، فإن العلم أصله العلم باللَّه تعالى وصفاته، وفي الآخرة ينكشف الغطاء، ويصير الخبر عِيانًا، والمعرفة باللَّه تعالى رؤية له ومشاهدة.
والعمل البدني القصد به: إما اشتغال الجوارح بالطاعة وكدها بالعبادة، وهذا مرفوعٌ عن أهل الجنة، وإما اتصال القلوب باللَّه تعالى وتنزيهها بذكره، وهذا حاصلٌ لأهل الجنة على أكمل الوجوه، بل لا نسبة لما حصل لقلوبهم في الدنيا من القُرْب والأُنس إلى ما يحصل لها في الجنة من المشاهدة عِيانًا، والتمتع بسماع الكلام، لا سيما في أوقات الصلوات في الدنيا، والمقربون منهم يحصل لهم ذلك مرتين بكرةً وعشيًا: وقت صلاة الصبح والعصر، ولهذا لما ذكر صلى اللَّه عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم. . حضَّ عقبه على المحافظة على صلاة الصبح والعصر، وكذلك نعيم الذكر وتلاوة القرآن لا ينقطع عنهم أبدًا، فيُلهمون التسبيح كما يُلهمون النَّفَس، ويقال لقارئهم: (اقرأ وارقَ) (?) فبان بذلك أن قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} على ظاهره؛ فإن ثواب كلمة التوحيد في الدنيا أن يصل صاحبها إلى قولها في