خلا عن نيةٍ، وليس كلامنا فيه؛ إذ الشكر يستلزم وجود أكمل النيات وأفضلها؛ فقد حصل للغني الشاكر عملٌ ونيةٌ، وللفقير الصابر نيةٌ فقط، ولا شك أن الأول أفضل؛ لأن تلك النية قد تعمل عملها عند القدرة، وقد لا، فلسنا على يقينٍ من وجود عملٍ معها، بخلافها مكان الشاكر؛ فإنَّا على يقينٍ من وجوده معها، وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: " اللهم؛ اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا" (?) لا شاهد فيه لترجيح الفقر مع الصبر؛ لأنه لا ينافي الغنى مع الشكر؛ لأن شكر الغنيِّ يستلزم أن رزقه كفافٌ وقوت، كما علم مما مر في تفسيره، فاندفع بهذا الذي قررته -مع أني لم أر من سبقني إليه أيضًا- ما للقرطبي وغيره هنا. فتأمل ذلك كله؛ فإنه نفيسٌ.
وقد تفضُل الصدقة المتعدية بغير المال الصدقةَ به؛ كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، وإزالة الأذى عن الطريق، والدعاء للمسلمين، وفي حديثٍ ضعيفٍ: "أفضلُ الصدقةِ اللسانُ" قيل: يا رسول اللَّه؛ وما صدقة اللسان؟ قال: "الشفاعة تفك بها الأسير، وتحقن بها الدم، وتجرُّ بها المعروف والإحسان إلى أخيك، وتدفع عنه الكريهة" (?).
وأخرج ابن حبان في "صحيحه": "ليس من نفسِ ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يومٍ طلعت فيه الشمس" قيل: يا رسول اللَّه؛ ومن أين لنا صدقة نتصدق بها؟! قال: "إن أبواب الجنة لكثيرةٌ: التسبيح، والتكبير، والتحميد، والتهليل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتُسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة" (?).
وأخرجه أحمد بنحوه وزاد: "ولك في جِماعك زوجتك أجرٌ" قلتُ: كيف يكون لي أجرٌ في شهوتي؟! فقال صلى اللَّه عليه وسلم: "أرأيت لو كان لك ولدٌ فأدرك ورجوت خيره فمات، أكنت تحتسب به؟! " قلت: نعم، قال: "فأنت خلقته؟ "