ولا يعكر على ما من أفضلية الغني ما امتاز به الفقير من تطهر أخلاقه، وحسن رياضته بصبره على فقره؛ لأن المفضول قد يمتاز على الفاضل بفضيلةٍ -بل فضائل- يخلو عنها الفاضل، على أن لك أن تمنع هذا التميز بأن الغني عنده أيضًا رياضةٌ أيُّ رياضةٍ بالشكر، وتطهير أيُّ تطهر لأخلاقه من الشح، والإمساك، والتفاخر بالدنيا وجمعها، وغير ذلك من آفاتها العجيبة، التي لو طرقت واحدةٌ منها الفقيرَ. . لربما أذهبت طهارة أخلاقه وحلاوة إملاقه.
فاندفع بهذا الذي قررته -وإن لم أَرَ من سبَقني إليه- توجيهُ ما ذهب إليه جمهور الصوفية من تفضيل الفقير الصابر بأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر منه مع الغِنى.
ووجه اندفاعه: ما ذكرته من منع الأكثرية، بل التهذيب والرياضة في الغني أتم منهما في الفقير، لما علمت، ويؤيده: أن الفقر مع الصبر هو أوائل أحواله صلى اللَّه عليه وسلم، والغِنى مع الشكرِ هو آخرها، وعادةُ اللَّه تعالى الجاريةُ مع أنبيائه ورسله: أنه لا يختم لهم إلا بأفضل الأحوال والمقامات، فختمه لأفضل خلقه بالغِنى مع الشكر دليلٌ أيُّ دليل على أنه أفضل من الفقر مع الصبر (?).
فإن قلت: فقره صلى اللَّه عليه وسلم إنما كان مع الرضا، وهو أفضل من ذينك.
قلت: الرضا موجودٌ معه صلى اللَّه عليه وسلم في حالتي الفقر والغنى، فيسقط النظر إليه، ويبقى فيما بينهما تضادٌّ، وهما الفقر مع الصبر، والغنى مع الشكر، وهذا هو الذي ختم اللَّه سبحانه وتعالى لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم به، فكان أفضل من غيره.
وتحسُّر الفقراء على فوات ما ينفقونه لا يلحقهم بمن أنفق بالفعل؛ لأن ما بالقوة دون ما بالفعل، وخبر: "نية المؤمن أبلغ من عمله" (?) إنما هو في نيةٍ قابلت عملًا