{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.
وأصرحُ من ذلك في إبطال مذهبهم الفاسد أنه تعالى أراد هداية الجميع. . قولُه تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فعمَّ الدعوة، وخصَّ الهداية، وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وإنما أُضيفت السيئة للنفس في: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، وفي قوله صلى اللَّه عليه وسلم في بعض أدعية الافتتاح: "والشر ليس إليك" (?) تعليمًا للأدب أنه لا يضاف إليه تعالى المحقرات، كما لا يقال: يا خالق القردة والخنازير وإن كان خالق كل شيء.
(فاستهدونى) أي: اطلبوا مني الهداية، بمعنى الدلالة على طُرُق الحق، والإيصال إليها معتقدين أنها لا تكون إلا من فضلي وبأمري (أهدكم) أي: أنصِب لكم أدلة ذلك الواضحة، أو أُوصل من شئتُ إيصاله في سابق العلم القديم الأزلي.
وحكمة طلبه تعالى منا سؤاله الهداية: إظهار الافتقار والإذعان، والإعلام بأنه لو هداه قبل أن يسأله. . لربما قال: إنما أُوتيتُه على علمٍ عندي، فيضل بذلك، فإذا سأل ربه. . فقد اعترفا على نفسه بالعبودية، ولمولاه بالربوبية، وهذا مقامٌ شريفٌ، وشهودٌ منيف، لا يتفطَّن له إلا الموفَّقون، ولا يعلم قدر عظمته إلا العارفون.
(يا عبادي؛ كلكم جائعٌ إلا من أطعمته) وذلك لأن الناس كلهم عبيدٌ لا ملك لهم في الحقيقة، وخزائن الرزق بيده تعالى، فمن لا يطعمه بفضله. . بقي جائعًا بعدله؛ إذ ليس عليه إطعام أحدٍ، فقولُه تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}. . التزامٌ منه تفضلًا؛ لا أنه عليه واجبٌ بالأصالة، فهو نظير: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} الآيةَ؛ أي: قبولها، واجبٌ منه تفضلًا التزامًا، لا عليه لزومًا.
ولا يمنع نسبة الإطعام إليه تعالى ما يشاهد من ترتب الأرزاق على أسبابها الظاهرة؛ كالحِرَف، والصنائع، وأنواع الاكتساب؛ لأنه تعالى المقدّر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة، فالجاهل محجوبٌ بالظاهر عن الباطن، والعارف