وإنما يمنع الحكيم نفسه ممَّا يقدر على فعله، ألا ترى أن آدميًا لو قال: منعت نفسي من صعود السماء. . استُهزئ به؟!
وأيضًا: فهو تعالى عامل عباده معاملة مستأجرٍ لأجرائه بقوله لأهل الكتاب: "هل ظلمتكم من أجوركم شيئًا؟ " قالوا: لا، قال: "فذلك فضلي أوتيه من أشاء" (?) والمستأجر يصح منه ظلم الأجراء.
وأيضًا: ترك الظلم مع إمكانه والقدرة عليه أمدحُ من تركه مع استحالته والعجز عنه؛ كما أن ترك الفعل للزنا أمدح له بالعفاف من ترك الخصيِّ والعِنِّين له. اهـ
وهو غير سديدٍ كان نقله بعض الشارحين وأقره؛ لِمَا تقرر أن حقيقة الظلم: وضعُ الشيء في غير محلِّه بالتصرف في ملك الغير، أو مجاوزةُ الحدِّ، ومع النظر لهذا يجزم كلُّ مَنْ له أدنى بصيرةٍ باستحالته عليه تعالى؛ إذ لا يُتَعَقَّلُ وقوع شيءٍ من تصرفه تعالى في غير محله، وكأن مدعي تصوره منه سبحانه وتعالى يفسره بما هو ظلمٌ عند العقل لو خُلِّي ونفسه من حيث عدمُ مطابقتِه لقضيته، فحينئذٍ يكون لكلامه نوعُ احتمال، بخلاف ما إذا فسره بالأول (?)؛ فإن دعوى تصوره منه حينئذٍ في غاية السقوط.
ويجاب عمَّا احتج به من التمدُّح بنفيه ومنع نفسه منه بأن هذا خارجٌ عن قضية الخطاب العادي، المقصود به زجرُ عباده عنه، وإعلامهم بامتناعه عليهم بالأَولى، فهو على حدِّ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وهذا فنٌّ بليغٌ من أساليب البلاغة، لا ينكره إلا كل جامد الطبع، فامتنع قياسه على قول الأعمى: لا أبصر، والآدميِّ: منعت نفسي من صعود السماء، بل شتَّان ما بينهما؛ فإن كلًّا من هاتين المقالتين محض سَفْساف ولغو، بخلاف قوله تعالى: "إني حرمت الظلم على نفسي" الذي وطَّأ به لقوله تعالى: "وجعلته بينكم محرمًا" ثم وطَّأ بهما لقوله تعالى: "فلا تظالموا" فاتضح أن هذا السياق في غاية البلاغة، وأنه لا ينافي استحالة الظلم عليه تعالى، وأن