فإن هذه لمَّا نزلت. . تحرَّجت الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم منها، وقالوا: أيُّنا يطيق ذلك، فنزلت تلك، ولتوقف المأمور به على فعل، بخلاف المنهي عنه، فإنه كفٌّ محضٌ، قال في ذاك: "فأتوا منه ما استطعتم"، وفي هذا: "فاجتنبوه".
وعن أحمد رضي اللَّه تعالى عنه: أنه يؤخذ من الحديث أن النهي أشد من الأمر؛ لأنه لم يرخص في شي: منه، والأمر مقيدٌ بالاستطاعة، وقريبٌ من هذا قول بعضهم: أعمال البِرِّ يعملها البارُّ والفاجر، والمعاصي لا يتركها إلا صدِّيق.
قيل: وتفضيل ترك المنهي على فعل الطاعة إنما أُريد به على نوافلها، وإلَّا. . فجنس الواجب لكون العمل فيه مطلوبًا لذاته أفضلُ من ترك المحرَّم؛ لأن المطلوب عدمه، ومن ثَمَّ لم يحتج لنيةٍ، ولذلك كان ترك الواجب قد يكون كفرًا كترك التوحيد، بخلاف ارتكاب المنهي؛ فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه. انتهى، وفيه نظر (?).
(فإنما) وجه تفريع ما بعدها على ما قبلها: أن الأمر والنهي الصَّادرينِ منه صلى اللَّه عليه وسلم لما كانا مظِنَّةً لكثرة السؤال عنهما: هل يقتضيان التكرار مثلًا؟ وكان في كثرته كثرة الجواب، فيضاهي ذلك قصة بقرة بني إسرائيل التي أُمروا فيها بذبح بقرةٍ، فتعنَّتوا ولم يُبادروا إلى مقتضى اللفظ من ذبح أي بقرةٍ كانت، بل شدَّدوا على أنفسهم بكثرة تكرار السؤال، فشدَّد اللَّه عليهم بزيادة الأوصاف حتى لم يجدوا متصفًا بها إلا بقرةً واحدةً، فشروها بملء جلدها ذهبًا، فندموا على ذلك. . فخاف صلى اللَّه عليه وسلم على أمته من مثل ذلك، ومن ثم قال: (أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم) بالضم؛ لأنه أبلغ في ذم الاختلاف؛ إذ لا يتقيد حينئذ بـ (كثرة) بخلافه لو جُرَّ.
(على أنبيائهم) استُفيد منه تحريم الاختلاف، وكثرة المسائل من غير ضرورة؛ لأنه توعَّد عليه بالهلاك، والوعيدُ على الشيء دليلٌ لتحريمه، بل لكونه كبيرةً على الخلاف فيه.