قال القرطبي: (والصواب: الأول) (?)، وقال المصنف: (الظاهر: أن هذا الخلاف مخرجٌ على الخلاف المعروف في الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب، والأصح: أنها لا يحكم فيها بحلٍّ ولا حرمةٍ، ولا إباحةٍ ولا غيرها؛ لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع) اهـ (?)، واعترضه جماعةٌ من المتأخرين كما بيَّنتُه مع الجواب عنه في "شرح العباب" في (باب النجاسة).
قال القرطبي: (ودليل الحل: أن الشرع أخرجها من قسم الحرام، وأشار إلى أن الورع تركها بقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك") (?).
ومن عبَّر بـ (أنها حلال يتورع عنها). . أراد بـ (الحلال) مطلق الجائز الشامل للمكروه، بدليل قوله: (يتورع عنها) لا المباح المستوي الطرفين؛ لأنه لا يتصور فيه ورعٌ ما داما مستويين، بخلاف ما إذا ترجَّح أحدهما؛ فإنه إن كان الراجح الترك. . كُره، أو الفعل. . نُدب.
لا يقال: هو صلى اللَّه عليه وسلم وأكثر أصحابه زهدوا في التنعُّم في المأكل وغيره مع إباحته؛ لأنا نمنع إباحته بأنهم إنما زهدوا في مُترجِّح الترك شرعًا، وهذه حقيقة المكروه، لكنه تارةً يكرهه الشرع لذاته؛ كأكل متروك التّسمية عندنا، وتارةً يكرهه لخوف مفسدةٍ تترتَّب عليه؛ كالقُبْلة لصائمٍ لم تحرِّك شهوته (?)، وتركهم التنعم من هذا؛ لأنه يترتب عليه مفاسد حالية كالركون للدنيا، ومآلية كالحساب عليه في الآخرة، وعدم القيام بشكره، وغير ذلك.
والدليلُ على أن ترك الشبهات ورعٌ: قولُه صلى اللَّه عليه وسلم لمن تزوج امرأةً -فقالت له سوداء: قد أرضعتكما-: "أليس وقد قيل؟! دعها عنكَ" (?).