وعدنا إلى طبرية فتسلمنا قلعتها، وحللنا عقدتها، وفرعنا ذروتها، وافترعنا عذرتها.

ثم سرنا إلى عكاء ففتحناها بالأمان، وأعلنا بها شعار الإيمان. واستقرينا بعدها البلاد الساحلية من جبيل وحد طرابليس إلى الداروم غير صور فإنها امتنعت بسورها، ولم يبق في كأس انكفر غير سورها، وإنها وجدت فسحة في أيام اشتغالنا بفتح أخواتها، وكثفت من عدد المحاصرة آلاتها. وكنا لما فتحنا عسقلان بدأنا بالنزول على القدس، وذلك يوم الجمعة ثالث عشر رجب، فرجف بها قلب الكفر ووجب. وظن أهلها أنهم يعتصمون، وأنهم من بأسنا يسلمون.

فنصبنا عليهم منجنيقات هدت أحجار السور بسورة أحجارها، وآذان ركوعها بسجود الأبراج في إجبارها. ووفت الصخور باصراخ الصخرة، وعثرت تلك القلل بإقالة ما دام بها من العثرة. وكشف النقب ونقب الأسوار. ورمت الجنادل

جوانب ذلك الجدار، وعلم الكفار لمن عقبى الدار، وأيقنوا بالقتل والإسار.

فخرج مقدومهم متذللين بالاذعان، مبتهلين في طلب الأمان. فأبينا كل الاباء، الاسفك الدماء من الرجال وسبى الذراري والنساء. فخوفوا بقتل الأسراء، وإخراب العمران وهدم البناء. فأمناهم على قطيعة موازية لأثمانهم لو أسروا أو سبوا. فأمنوا من أن يسلبوا وهم على الحقيقة قد سلبوا. ومن وفي منهم بالقطيعة حرج بحكم العتق، ومن عجز عن أدائه دخل تحت الرق.

وعاد الإسلام بإسلام البيت المقدس إلى تقديسه، ورجع بنيانه من التقوى إلى تأسيسه. وزال ناموس ناقوسه. وبطل بنص النصر قياس قسيسه. وفتح باب الرحمة لأهلها، ودخلت قبة الصخرة لفضلها. وباشرت الجباه بها مواضع سجودها، وصافحت أيدي الأولياء آثار القدم النبوية لتجديد عهودها. وشوهد مقام المعراج وموطئ براقه، ورئى نور الإسراء ومطلع إشراقه.

ودنا المسجد الأقصى للراكع والساجد، وامتلأ ذلك الفضاء بالأتقياء الاماجد. وطنت أوطانه بقراءة القرآن ورواية الحديث وذكر الدروس، وجليت هدى الهدى من الصخرة المقدسة جلوة العروس. وزارها شهر رمضان مضيفا لها نهار صومها بالتسبيح، وليل فطرها بالتراويح. وشفى الله بسقيا هذا الفتح كان دهم القلوب لأجلها من تيار التباريح.

فالبيت الحرام مساو للبيت المقدس، مفدى منا كلاهما من المهج والأنفس بالأنفس. وانه من المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال والرجال. ويضيق عن وصف شرفها في حلبة البيان المجال. وهو للحرمين ثالث ولا تثليث في حرم توحيده، فتجدد جد الإسلام بتجديده.

ولما فرغ البال من تدبيره؛ وقضينا حق تقديسه وتطهيره؛ صرنا إلى صور، ونازلناها بعسكرنا المنصور. وفي صور سور الكفر وبقيته، وقد تحصن بسورها ومنعته

طور بواسطة نورين ميديا © 2015