وفي يوم الخميس انسلاخ جمادى الآخرة، خرج الفرنج من جانب البحر بالعدة الوافرة. وانتشروا بالمرج إلى الآبار التي كان حفرها العسكر. فضرب الكوس السلطاني، فثار المعشر، وقام المحشر. وأنهض السلطان إلى اليوك من قواه، واتبعه بمدد تلاه. وقد طار غراب الغبار، وتبرقت بالتراب عراب المضمار، وشبت الوغى بكل تمانع سوى فارسها ركابها، وتعير الشمس من نسج حافرها نقابها. في غلب كالقواضب يروون القواصب، وطوالع من الغروب يعدن في الغوارب غوارب.
وحمل على إبطال الباطل حماة الحق، فردوا الكفر بذلك الخرق المتسع متسع الخرق. وانهزم الفرنج فجالت العرب دونهم، وحالت بينهم وبين أسوارهم، وأحالت عليهم منونهم. وصرعوا زهاء خمسين رجلا، كروا عليهم بكاسات المنون نهلا وعلا. وردوهم إلى مراكزهم، ولم يبن لقادرهم فضل على عاجزهم.
ثم كر الفرنج على المسلمين كرة عظيمة، كادت تحدث هزيمة. فوقف أصحابنا وثبتوا ثم وثبوا، واسعروا نار الحديد والهبوا. ونظموهم بالقنا ونثروهم بالظبا، وفرشوا منهم قتلى على الربا. واحتبت سيوفهم بالأعناق والطلى، وحلت من حياة العدا الحبا. ودخل القوم إلى خنادقهم ووقفوا وراء اسوارهم بإثارة عثيرهم وآثار عثارهم. وانتصف الإسلام من الكفر في ذلك اليوم بعض الانتصاف، وأخذ يد النصر على المصافاة بمصافحة المصاف.
وفي يوم الجمعة ثامن رجب جاءت الرسل في تقرير القطيعة المقلالاة، لخلاص الجماعة المستأسرة. وأخبروا أن ملك أفرنسيس صار إلى صور. ورتب الدوك نائبة وولاه الأمور. وأنه قد عزم على العود إلى بلاده بعد ما جرى الأمر بعكاء على مراده. وأنه وكل المركيس في قبض نصيبه، ورضى بتدبيره وترتيبه. فأنهض إليه السلطان وراءه رسولا بتحف تليق به، يستخرج ضمائره فيما هو من
أربه، ونقل خيمته يوم السبت العاشر إلى تل بازاء شفرعم وراء التل الذي عليه نازلا، وحلى الموضع الذي حله وخلى الذي أخلاه عاطلا.
وما زالت الرسل تردد، والرسالات تجدد، والآراء والآراب تجتمع وتبدد، حتى أحضر مائة ألف دينار والأسارى المطلوبين وصليب الصلبوت، ليوصل ذلك كله إلى الفرنج في الأجل المضروب والوقت الموقوت.
ووقع الخلف في كيفية التسليم والتسلم، وكيف يحصل الوثوق بالكفار مع تحمل هذا المغرم. فقال السلطان: أسلمه إليكم على أن تطلقوا أصحابنا أجمعين، وتأخذوا بباقي المال على سبيل الرهن قوما معينين، فأبوا إلا أخذ الجميع، في الزمان السريع. والوثوق بأمانهم وأمانتهم، والتفويض في أصحابنا إلى خيرتهم. فقلنا لهم: يضمنكم الداوية. فما دخلوا في الضمان، وساء فيهم ظن السلطان. وقال: إذا سلم إليهم من غير شرط الاحتياط عليهم؛ كان فيه على الإسلام غبن عظيم، وعار إلى الأبد مقيم، فلو أيقنا