رام عنه، ومن نازع في القوس نازع منه، ومن متعرض للموت خوف عار عارض، ومن ناه عن السلم آمر بالحرب ناهض، ومن ندب فيه ندوب، ومن ضرب فيه من أثر الضرب ضروب، حتى ضج الحديد من قرع الحديد، ومجت الشفار الظامئة ورد الوريد.

هذا وعدد المقاتلة في كل يوم ينقص، وظل المصابرة يقلص. والعدم يتمكن من الوجود، والقيام للإثخان في زي القعود. وكاد البقاء يودع الباقين والمنون تلاقى الملاقين. فلم يشعروا إلا وبعض المقدمين المشهورين قد تأخر وتستر، واستشعر الذعر؛ فتعذر وتحذر. واستبدل الجبن من الشجاعة، واستملى العجز من الاستطاعة، وقدم العصيان على الطاعة. وظن إنه لا نجاح له في العزيمة، ولا نجاة له إلا في الهزيمة. وجنب أمثاله من الجبناء، وجمع إلى أمره جماعة من الأمراء. فخرج بهم من الثغر فارا، وذهب على وجهه معهم مارا. ورهب فهرب، وحسب فتسحب. فأضعف قلوب البقية استشعارا، وأعدمهم عدم قراره قرارا. لكنهم ثابوا إلى صبرهم، وثبتوا على أمرهم، ودفعوا مكر العدو بمكرهم.

وما برحوا على مصابرة ومكابرة، ومقارعة ومعاثرة، ومكافحة وملافحة، ومواقعة ومواقحة، ومطاحنة ومناطحة، وجلد على الخنادق التي طمت، ورمى في خروقها التراب ورمت. وطرقها العدو بالسوء إلى السور، وطرق الظلمة إلى النور، وهجم على السنى بالديجور. وكشف نقاب عروس البلد بالنقب، وأسعر بمساعيره حر الحرب. حتى ثلم حمى الثغر وكلم حاميه، وأشرفت مراميه. وكثرت ندوب نقوبه، وكرثت خطاب خطوبه.

ودخل العدو في النقب فلم يجد لكونه مجدلا أو مجرحا مخرجا، وتوغل في الباب الخلاص المرتجى مرتجا. وكل من أصحابنا قد سد الثغرة بنفسه، ولقي الوحشة بأنسه. وفارق لوصال أهل الجنة أهله، وأثبت في مستنقع الموت رجله.

ولم يزل النقابون يوسعون ويمشون؛ ويعلقون ويحشون؛ ويخرقون ويحرقون؛ ويجمعون ويفرقون؛ حتى تساقطت الأبدان فعادت تلولا، وتعانقت الأسياف فزادت قلولا. وتكشفت الوجوه لقبل الطعان، وبردت بحرارة الدم قوائم اليمانية في الإيمان، وبردت بمجالدة اجلاد الشرك إيمان انجاد الإيمان.

وأصحابنا لا يهولهم الهائل، ولا يميلهم إلى الحذار الجدار المائل، ولا يلزعهم الخطب الوازع، ولا يردعهم الرعب الرادع. يواصلون بالقواطع، يتواقعون على الوقائع، ويردون بغربهم الطالع، ويقدون بحدهم الدارع. إذا انتظموا مع العدو نثروه، وإذا نهضوا له اقعدوه وعثروه، وإذا صعد إليهم حدروه، وإذا بادر اليهم بدروه وندروه. حتى أقاموا منه عوض أبدان السور أبدانا، وكم تركوا على تلك المصارع من جاثميها جثمانا.

وما زالوا يقتلون ويقتلون، وينهلون من ورد النجيع وينهلون؛ ويصلون ويقطعون، ويشعبون ويصدعون، ويكيلون بصاع المصاع، ويجيبون للعمر الراحل داعي الوداع، ويتناجون

طور بواسطة نورين ميديا © 2015