وكان معهم من المماليك الخواص؛ من ذوي الجد والاخلاص؛ تركي عربي النخوة؛ غضنفري السطوة. فلما حصل في المضيق؛ وأيس من الطريق؛ نزل عن فرسه على صخرة بنجوة، ونثل بين يديه كنانته فارعا لذروة، وقد أوتر قوسه وسدد إليهم سهمه، وقبل تضاء الله وحكمه. وحن إلى منيته من حنيته، وأصاب منيته من اصماء العدو في المصاب بأمنيته.
فوقفوا عنه بعيدا حتى خافوا قربه، وما زالوا يطعنونه ويرمونه حتى ظنوا أنه قضى نحبه، فأصبح وقد نزف دمه، فترجح على وجوده عدمه.
ولما قيل أنه استشهد؛ وطلب ليلحد؛ رمقوبه رمق، وهو في دمه غرق. فحمل على أنه من الأموات، ولم يرج له فوات الوفاة. فأحياه الله بعد أن اماته، وجمع أعضاءه عليه وقد شارف منها شتاته. وأنشأه خلقا جديدا، وأوجده في أجله مزيدا، وهو (ايبك الساقي)، زاده ما جرى اجتراء على الإقدام، وإجراء إلى مضمار الحمام. فما سمع بعد ذلك هيعة الإطار إليها، ولا ابصر للكفر ضيعة إلا أغار عليها.
وصل الخبر يوم الأربعاء ثامن رجب؛ أن العدو قد ركب. وأجلب بخيله ورجله، وطار بجراد جرده. ودب دباه في رجله. وسرحت ذئابه، ونبحت كلابه. وجاش عرام جيشه العرموم، وطاش إلى أهل الجنة بأهل جهنم. ونوى القرب من النواقير، وأضرم بنار السعير مساعي المساعير وهو على قصد عكاء يجري إلى
المدى برأي جمعه المدامير. وأن نفرا منهم نفر، وسبق إلى النواقير وعبر. ونزل باسكندرونة، واستباح طرقها المصونة. وهناك من المؤمنين رجال يحمون طرف الثغر، وسضمون نشر الأمر. ويصمون نحر الكفر، ويجبون غارب الشر، ويجوبون جانب البحر. ويطوفون للحراسة، ويطولون بالحماسة.
فلما رأوا مقدمة الفرنج واقعوها ودافعوها، وعاقروها وقارعوها. وأهلكوا عدة، وملكوا عدة. ولما تكاثرت أعداد الأعداء؛ استظهروا بالانكفاء عن الأكفاء. وتراجعوا بعد ما راجعوا. واطلع السلطان على خبرهم، وعرف نفورهم. فكتب إلى العساكر الدانية بالدنو، للعدو. فتوافدوا للميعاد، وتوافوا للاعتضاد، وتوافروا للجهاد، وتوافقوا في إدناء المراد بإبعاد المراد.
ورحل الفرنج ثاني عشر رجب يوم الأحد، وافية المدد وافرة العدد. ونزلت على عين بصة، ولقد شاهد دركات جهنم من شاهد تلك الرحاب المغتضة. ووصل أوائلهم إلى الزيب، وأجابوا داعية الصليب.
فأصبح السلطان يوم الاثنين على الرحيل، ووصل العنق بالذميل،