وانعم السلطان بهذا الحصن على (عز الدين بن المقدم) - الكريم المكرم، والمقدام المقدم، والعظيم المعظم، والماجد الممجد - (إبراهيم ابن محمد). فإن هذه القلعة لثغر افامية الجارية في اقطاعه متاخمة، وهي لها في السلم مقاسمة، وفي الحرب مزاحمة. وسرت هذه البشرى وسارت، ودرت هذه النعمى ودارت، وطارت كتب البشائر، وسرحت على جناح الطائر.
وفيما كتبت إن هذه البشرى بما أجده الله من الفتح العزيز؛ والنصر الوجيز؛ بفتح حصن برزيه الذي برزت له الأرض في قشب أثوابها، وتفتحت له السماء لتنزل الملائكة من أبوابها، بل سفرت به عرائس الأيام في حلى أيامنها، وأشرقت من أقمار الليالي في أنوار محاسنها. وهذا الحصن لا يمكن وصف ما هو عليه من الحصانة، وكأن حجره في حجر حضن للحضانة. وقد عرف ما فتحناه من البلاد والحصون، وسلبنا أهل الكفر بها من السلامة والسكون. وفتحنا كل مرتج لم يكن فتحه مرتجى، ولم يجد من حصل في أسر الدهر به مخرجا. حتى أتت أيامنا، وداني فيه مرامنا، فجاءه عصرنا، وفجأة أمرنا، ووصل إلينا ما هو في الأزل
ذخرنا، وكمل بهذه الفتوحات فخرنا.
وذلك أنا فتحنا من حدود طرابلس إلى حد انطاكية، وسقينا بماء الحديد الجاري في انهار دم أهل النار مغارس الهدى الزاكية، وجلونا بها ثغور الثغور الضاحكة وعيون العدو الباكية. وهذه الحصون التي فتحناها، والمعاقل التي استبحناها، لو وكلنا الله إلى اجتهادنا في فتح أحدها لنعذر ولو أنجدت عساكر الدنيا يمددها. لكن الله سهل ويسر، وفتح ونصر، وأنزل الظفر. وأن حصن برزيه لم يكن عليه قتال، ولا للوهم فيه مجال. ولا منصب عليه لمنجنيق، ولا مسلك إليه لسالك طريق.
وحضرنا لحصره، متوكلين على الله في امره، غير طامعين في فتحه، ولا راجين لنجحه. انقاد جماحه، وانخفض جناحه، وساء صباحه، وكمل سلاحه. وتوقل الرجال في ذروته توقل النجوم في الأفلاك، ونصر الله أهل التوحيد على أهل الإشراك. وفتحناه بالسيف عنوة، ودجا يوم المثلث عليه يوم الثلاثاء ضحوة، فانا لما توكلنا على الله في منازلته، واستعنا به في مقاتلته؛ نظر الله إلى النيات، وأعان ذوي العزائم والثبات. فتعلقوا في الجبل، وتسلقوا إلى القلل، وسعوا إلى الأجل، في طلب تسنى الأمل. فكان كما قال الله تعالى (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) حتى من الله بالظفر، وأصفى والصدر من الكدر.
وقد بقيت إنطاكية وما لها بقاء، ولا لها في الاعتصام رجاء. وقد نقصنا أطرافها، واستبحنا اكنافها، وشفهنا نطافها، وعضدنا من رؤوس أهلها بحدود الصوارم قطافها. ولم يبق من معاقلها إلا القصير، ودربساك، وبغراس، وقد تقدم إليها الفاتحان، الرعب والبأس.