فيه إضرار به، والإضرار ممنوع، فكما لا يجوز الإضرار بجاره لا يجوز الإضرار به، فإن منعه من الانتفاع بملكه إضرار به، لأنا نقول: إنما يكون إضرارا به لو فرضنا أنه يمكنه الانتفاع بملكه بوجه من الوجوه إلا بإضرار جاره، وليس الأمر كذلك فإنه يمكن الانتفاع بالملك بمنافع عدة، كالزرع، وغرس ما لا يضر من الغروس. وعلى فرض أنه لا يمكن الانتفاع به إلا بذلك الوجه الذي يضر بجاره فهاهنا قد تعارض أمران:
أحدهما: جلب مصلحة المالك.
والثاني: دفع المفسدة عن الجار. ودفع المفاسد أهم من جلب المصالح وأقدم، كما تقرر في الأصول، فإنه لا يلتفت إلى جلب المصلحة إلا إذا كانت خالية عن مفسدة، لا إذا كانت مشوبة بها؛ فلا يجوز تسويغها، ولكن هذا الأمر الذي ذكرناه وهو منع الغارس من غرس ما يضر بجاره مبني على أنه لا يمكن دفع الضرر إلا بترك الغرس، أما لو أمكن دفعه بأن يجعل الغارس خندقا في ملكه يمنع سراية أصول الغروس وفروعها، أو بأن يعمر جدارا مثلا من حجر، ويحفر لأساس البناء مقدارا يمنع من السراية فهاهنا قد اندفع الضرار، فيجوز الغرس.
أما لو كانت الأرض لا ينتفع بها إلا بالغرس فقط، ولا يمكن الانتفاع بها بغيره فلا ضرار ممن غرس في أرضه، لأنه وإن كان سيسري من عروق غروسه إلى أرض جاره فقد يسري إلى أرضه من عروق غروس جاره مثل ما يسري إلى أرض الجار فلا إضرار. فإن كانت الأرض تصلح للغرس ولغيره يتمكن اعتبار الأغلب، فإن كان الأغلب في تلك الأرض من المالكين لها هو الغرس لا يمنع الغارس، لأنه جرى على حكم الغالب، ومن جرى على ذلك لم يكن متعديا، والذي لم يجر على الغالب كمن يزرع ملكه في أرض تعتاد الغرس فقد رضي بإدخال الضرر على نفسه، فأما دفع ما يسري إلى ملكه بأن يجعل لنفسه خندقا، أو جدار في ملكه يمنع من سريان العروق إليه، أو صبر على ما يرد على أرضه من ذلك، أو جرى عليه حكم الغالب، وترك زرع أرضه، ويغرسها كغيره.