الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِطُولِ الصُّحْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةٌ لَمْ يَرِدْ فِيهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقْضِي فِيهَا بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَاجِبٌ فَإِنْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ فِيهَا مُخْتَلِفِينَ يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَيُرَجِّحُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِاجْتِهَادِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ جَمِيعًا بِاخْتِرَاعِ قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ وَكَانَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالًا، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى حُكْمٍ وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ مِنْ التَّابِعِينَ إنْ كَانَ الْمُخَالِفُ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْ عَهْدَ الصَّحَابَةِ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ حَتَّى لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَانَ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ أَدْرَكَ عَهْدَ الصَّحَابَةِ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ كَشُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ لِمُخَالَفَتِهِ، وَإِنْ جَاءَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ فِيهِ شَيْءٌ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا أُقَلِّدُهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَفْتَى فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ مِثْلُ شُرَيْحٍ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ، وَالْحَسَنِ فَأَنَا أُقَلِّدُهُمْ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.

فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ قَوْلٌ وَكَانَ فِيهِ إجْمَاعُ التَّابِعِينَ قَضَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ رَجَّحَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ وَقَضَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قَاسَهُ عَلَى مَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَاجْتَهَدَ فِيهِ بِرَأْيِهِ فِيهِ وَتَحَرَّى الصَّوَابَ، ثُمَّ يَقْضِي بِهِ بِرَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ يَسْتَفْتِي فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذُ بِفَتْوَى الْمُفْتِي وَلَا يَقْضِي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا يَسْتَحْيِي مِنْ السُّؤَالِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ فَصْلَيْنِ.

أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي شَيْءٍ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُخَالِفَهُمْ بِرَأْيِهِ.

وَالثَّانِي إذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: يُؤْخَذُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ التَّابِعِينَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَوُجِدَتْ عَنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقْضِي بِهِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ يَخْتَارُ وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ عَنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَجْتَهِدُ فِيهِ بِرَأْيِهِ إذَا كَانَ يَعْرِفُ وُجُوهَ الْفِقْهِ وَيُشَاوِرُ أَهْلَ الْفِقْهِ فِيهِ.

وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: ثُمَّ إذَا قَضَى بِالِاجْتِهَادِ فَإِنْ خَالَفَ النَّصَّ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ النَّصَّ لَكِنَّهُ رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ رَأْيًا آخَرَ لَا يُبْطِلُ مَا مَضَى وَيَقْضِي فِي الْمُسْتَأْنَفِ بِمَا يَرَاهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ قَضَى فِي أَوَّلِ الْمَرَّةِ بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ رَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ كَانَ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا الْإِجْمَاعُ هَلْ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ.؟

فَقَدْ قِيلَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَرْفَعُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرْفَعُ، وَذَكَرَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015