وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْحَجَّ إذَا لَمْ يَجِبْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يُقَاسُ بِمَا يَجِبُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا مِمَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ طَوَافِ الْحَائِضِ وَصَلَاةِ الْحَائِضِ، فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الطَّوَافِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهَا مَرَّةً فِي الْعُمُرِ، وَقَدْ تَكَلَّفَتْ السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَحَمَلَتْ الْإِبِلُ أَقْفَالَهَا إلَى بَلَدٍ لَمْ يَكُنْ النَّاسُ بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، فَأَيْنَ حَاجَةُ هَذِهِ إلَى الطَّوَافِ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي تَسْتَغْنِي عَنْهَا زَمَنَ الْحَيْضِ، بِمَا تَفْعَلُهُ زَمَنَ الطُّهْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَائِضَ لَمْ تُمْنَعْ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا وَحَاجَتُهَا إلَى هَذَا الطَّوَافِ أَعْظَمُ.
وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: الْقُرْآنُ تَقْرَؤُهُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، فَالطَّوَافُ تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عَنْ السَّلَفِ، فَلَا بُدَّ بِذَلِكَ مِنْ حُجَّةٍ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فِي الطَّوَافِ. وَالِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّ نِهَايَتَهُ أَنْ يُشَبَّهَ بِالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ الْمُشَبَّهُ كَالْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ كَالصَّلَاةِ فِي اجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ الَّتِي تَحْرُمُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ الْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مُبْطِلًا لِلطَّوَافِ، وَإِنْ كُرِهَ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَشْتَغِلُ عَنْ مَقْصُودِهِ، كَمَا يُكْرَهُ مِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ، وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ» .
وَقَوْلِهِ: «إذَا خَرَجَ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ» . وَلِهَذَا قَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَكُمْ فِيهِ الْكَلَامَ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُبَاحُ فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَهَذِهِ مَحْظُورَاتُ الصَّلَاةِ الَّتِي تُبْطِلُهَا: