حَقًّا وَجِدًّا، وَسُمِّيَ الثَّانِي مُخَادِعًا مُدَالِسًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَوْعَى اللَّفْظَ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَاهُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَاهُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا أَطْلَقَ اللَّفْظَ وَهُوَ لَفْظٌ لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أَعْرَاهُ عَنْ مَعْنًى جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ.
وَالثَّانِي: لَمَّا أَثْبَتَ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، فَبَطَلَ حُكْمُهُ وَذَكَرْنَا أَنَّ صِحَّةَ نِكَاحِ الْهَازِلِ حُجَّةٌ فِي إبْطَالِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزْوًا، وَعَنْ التَّلَاعُبِ بِحُدُودِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَطَلَ هَذَا التَّلَاعُبُ، وَبُطْلَانُ التَّلَاعُبِ فِي حَقِّ الْهَازِلِ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ، فَإِنَّ مُوجَبَ تَلَاعُبِهِ فَسَادُهُ، وَبُطْلَانُ التَّلَاعُبِ فِي حَقِّ الْمُحَلِّلِ إفْسَادُ الْعَقْدِ، فَإِنَّ مُوجَبَ تَلَاعُبِهِ صِحَّتُهُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْهَازِلَ نَقَصَ الْعَقْدَ فَكَمَّلَهُ الشَّارِعُ تَحْقِيقًا لِلْعَقْدِ وَتَحْصِيلًا لِفَائِدَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا التَّكْمِيلَ مُزِيلٌ لِذَلِكَ الْهَزْلِ وَجَاعِلُهُ جِدًّا، وَأَنَّ الْمُحَلِّلَ زَادَ فِي الْعَقْدِ مَا أَوْجَبَ نَفْيَ أَصْلِهِ وَلَوْ أَبْطَلَ الشَّارِعُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَمْ يَفْدِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ لَهُ، وَالْقَصْدُ لَمْ يَرْتَفِعْ كَمَا أَمْكَنَ رَفْعُ الْهَزْلِ بِجَعْلِ الْأَمْرِ جِدًّا، وَهَذِهِ فُرُوقٌ نَبَّهْنَا عَلَيْهَا هُنَا. وَإِنْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ كِفَايَةٌ عَنْ هَذَا. وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا مِثْلُ شِرَاءِ الْعَصِيرِ فَجَوَابُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُنَاكَ قَصَدَ التَّصَرُّفَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْعَقْدَ، وَهُنَا قَصَدَ رَفْعَ الْعَقْدِ وَهَذَا يُنَافِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَصْدَهُ لِاِتِّخَاذِ الْعَصِيرِ خَمْرًا لَا يُفَارِقُ قَصْدَهُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلًّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ وَمُوجَبَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُفَارِقُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَهَذَا فَرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لَا بِالْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ، وَنَحْنُ لَمْ نَقُلْ إنَّ الطَّلَاقَ مُحَرَّمٌ وَأَنَّهُ أَبْطَلَ الْعَقْدَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا، وَإِنَّمَا نَافَاهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَصْدَهُ بِالْعَقْدِ إزَالَتُهُ وَإِعْدَامُهُ يُنَاقِضُ الْعَقْدَ حَتَّى يَصِيرَ صُورَةَ عَقْدٍ لَا حَقِيقَةَ عَقْدٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ اشْتِرَاءَهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ حَرَامٌ بَاطِلٌ، ثُمَّ إنْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ كَانَ بَيْعُهُ حَرَامًا بَاطِلًا فِي حَقِّهِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَذَكَرْنَا «لَعْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاصِرَ الْخَمْرِ» ، وَحَدِيثًا آخَرَ وَرَدَ فِيمَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ، لِيَبِيعَهُ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا الْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَعَلُوا بَيْعَ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُخَمِّرُهُ بَيْعًا لِلْخَمْرِ، وَهُوَ نَهْيٌ يَتَعَلَّقُ بِتَصَرُّفِ الْعَاقِدِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَنَهْيِ