وَهَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ قَدْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُبَاحَةٌ، فَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُحَرَّمَةٌ: امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ، فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي لَا يُدَانُ فِيهِ.
وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَذَابًا وَأَقَلِّهِمْ ثَوَابًا، فَإِنَّ الْعَاشِقَ لِصُورَةٍ إذَا بَقِيَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا، مُسْتَعْبَدًا لَهُ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى، فَدَوَامُ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا بِلَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ، مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ وَيَزُولُ أَثَرُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَهَؤُلَاءِ يُشَبَّهُونَ بِالسُّكَارَى وَالْمَجَانِينِ.
كَمَا قِيلَ: سَكْرَانِ: سُكْرُ هَوًى، وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانِ، وَقِيلَ:
قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُمْ ... الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَلَاءِ إعْرَاضُ الْقَلْبِ عَنْ اللَّهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ طَعْمَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ قَطُّ أَحْلَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتْرُكُ مَحْبُوبًا إلَّا بِمَحْبُوبٍ آخَرَ يَكُونُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُ، أَوْ خَوْفًا مِنْ مَكْرُوهٍ، فَالْحُبُّ الْفَاسِدُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ عَنْهُ بِالْحُبِّ الصَّالِحِ؛ أَوْ بِالْخَوْفِ مِنْ الضَّرَرِ.
قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] ، فَاَللَّهُ يَصْرِفُ عَنْ عَبْدِهِ مَا يَسُوءُهُ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الصُّوَرِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ.
وَلِهَذَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَذُوقَ حَلَاوَةَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهَا، فَإِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِخْلَاصِ، وَقَوِيَ فِي قَلْبِهِ انْقَهَرَ لَهُ هَوَاهُ بِلَا عِلَاجٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] .
فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا دَفْعٌ لِلْمَكْرُوهِ، وَهُوَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ، وَفِيهَا تَحْصِيلُ الْمَحْبُوبِ، وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ، وَحُصُولُ هَذَا الْمَحْبُوبِ أَكْبَرُ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ، وَعِبَادَةُ الْقَلْبِ لِلَّهِ