سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً، وَسَمَاعِهِ بِوَاسِطَةِ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ.

فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ صَوْتُ الرَّبِّ، فَهُوَ إلَى تَأْدِيبِ الْمَجَانِين أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى خِطَابِ الْعُقَلَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الصَّوْتَ قَدِيمٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ قَدِيمٌ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ ذُو حِسٍّ سَلِيمٍ، بَلْ مَا بُيِّنَ لِوَحْيِ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ ثَابِتٌ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، لَا كَلَامُ غَيْرِهِ، فَمَنْ قَالَ إنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ كَلَامَ غَيْرِهِ فَهُوَ مُلْحِدٌ مَارِقٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَارَقَ ذَاتَه، وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ، كَمَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، فَهُوَ أَيْضًا مَارِقٌ، بَلْ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ يُكْتَبُ فِي الْأَوْرَاقِ وَهُوَ لَمْ يُفَارِقْ ذَوَاتَهمْ.

فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالشُّبْهَةُ تَنْشَأُ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُقَيَّدِ.

مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ رَأَيْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْهِلَالَ إذَا رَآهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْمُطْلَقَةُ؛ وَقَدْ يَرَاهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ؛ فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ؛ فَإِذَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ رَأَيْته، أَوْ مَا رَأَيْته، حُمِلَ عَلَى مَفْهُومِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ، وَإِذَا قَالَ لَقَدْ رَأَيْت الشَّمْسَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ، فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ مَعَ التَّقْيِيدِ، وَاللَّفْظُ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَإِذَا وَصَلَ بِالْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ التَّخْصِيصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، كَقَوْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا، كَانَ هَذَا الْمَجْمُوعُ دَالًّا عَلَى تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً بِطُرُقِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ.

وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا مَجَازٌ فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ وَمَا يُقْرَنُ بِاللَّفْظِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ هِيَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ.

وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ مَعَهَا مَعْنَيَيْنِ.

وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مَفْهُومِهِمَا، بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ نَفْيِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ.

وَهَذَا مَجَازٌ.

نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ. وَهُوَ مُسْتَنَدُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِي اللُّغَةِ وَفِي الْقُرْآنِ.

وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ.

وَلَمْ يُعْرَفْ لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

فَإِنَّ فِيمَا كَتَبَهُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ هَذَا مِنْ مَجَازِ الْقُرْآنِ.

وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي مَجَازِ الْقُرْآنِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015