ثُمَّ إنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ الْعِلْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ فَالْأَمْرُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَرْوُونَ عَنْ عَلِيٍّ إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا، وَإِنَّمَا غَالِبُهُ كَانَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانُوا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى عُثْمَانُ فَضْلًا عَنْ خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَكَانَ أَفْقَهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَعْلَمُهُمْ تَعَلَّمُوا الدِّينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا إلَّا مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُ لَمَّا كَانَ بِالْيَمَنِ، كَمَا تَعَلَّمُوا حِينَئِذٍ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَكَانَ مُقَامُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ وَتَعْلِيمُهُ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِ عَلِيٍّ وَتَعْلِيمِهِ.
وَلِهَذَا رَوَى أَهْلُ الْيَمَنِ عَنْ مُعَاذٍ أَكْثَرَ مِمَّا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ. وَشُرَيْحٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ إنَّمَا تَفَقَّهُوا عَلَى مُعَاذٍ. وَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الْكُوفَةِ كَانَ شُرَيْحٌ قَاضِيًا فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلِيٌّ وَجَدَ عَلَى الْقَضَاءِ فِي خِلَافَتِهِ شُرَيْحًا وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ وَكِلَاهُمَا تَفَقَّهَ عَلَى غَيْرِهِ. فَإِذَا كَانَ عِلْمُ الْإِسْلَامِ انْتَشَرَ فِي مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ إلَى الْكُوفَةِ، لَمَا صَارَ إلَى الْكُوفَةِ عَامَّةُ مَا بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ بَلَّغَهُ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَخْتَصَّ عَلِيٌّ بِتَبْلِيغِ شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا وَقَدْ اخْتَصَّ غَيْرُهُ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَالتَّبْلِيغُ الْعَامُّ الْحَاصِلُ بِالْوِلَايَةِ حَصَلَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِمَّا حَصَلَ لِعَلِيٍّ.
وَأَمَّا الْخَاصُّ فَابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ أَكْثَرَ فُتْيَا مِنْهُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَكْثَرُ رِوَايَةً مِنْهُ، وَعَلِيٌّ أَعْلَمَ مِنْهُمَا كَمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَعْلَمُ مِنْهُمَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَامُوا مِنْ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ الْعَامِّ بِمَا كَانَ النَّاسُ أَحْوَجَ إلَيْهِ مِمَّا بَلَغَهُ مَنْ بَلَغَ بَعْضُ الْعِلْمِ الْخَاصِّ.
وَأَمَّا مَا يَرْوِيه أَهْلُ الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ مِنْ اخْتِصَاصِ عَلِيٍّ بِعِلْمٍ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ فَكُلُّهُ بَاطِلٌ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيه اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَكَانَ فِيهَا عُقُولُ الدِّيَاتِ، أَيْ أَسْنَانُ الْإِبِلِ الَّتِي تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، وَفِيهَا فِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَفِيهَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.