فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْهَا «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي، وَوَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ يَخْرُجُ فِي الْآبَاطِ، وَالْمَرَاقِّ، وَالْفَارُّ مِنْهُ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ، وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَقَوْلُهُ: يَخْرُجُ فِي الْمَرَاقِّ، وَالْآبَاطِ هُوَ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ يَخْرُجُ فِي الْأَيْدِي، وَالْأَصَابِعِ، وَحَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْبَدَنِ قَالَ الْخَلِيلُ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الْوَبَاءُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَصْلُ الطَّاعُونِ الْقُرُوحُ الْخَارِجَةُ فِي الْجَسَدِ، وَالْوَبَاءُ عُمُومُ الْأَمْرَاضِ فَسُمِّيَتْ طَاعُونًا لِشَبَهِهَا بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَكُلُّ طَاعُونٍ وَبَاءٌ وَلَيْسَ كُلُّ وَبَاءٍ طَاعُونًا، وَجَرَى عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا ابْنُ سِينَا، وَغَيْرُهُ مِنْ حُذَّاقِ الْأَطِبَّاءِ فَفَسَّرُوا الطَّاعُونَ بِأَنَّهُ مَادَّةٌ سُمِّيَّةٌ تُحْدِثُ وَرَمًا قَتَّالًا تَحْصُلُ فِي مَغَابِنِ الْبَدَنِ، وَالرِّخْوِ مِنْهُ، وَسَبَبُهُ دَمٌ رَدِيءٌ مَائِلٌ إلَى الْعُفُونَةِ، وَالْفَسَادِ يَسْتَحِيلُ إلَى جَوْهَرٍ سُمَيٍّ يُفْسِدُ الْعُضْوَ، وَيُؤَدِّي إلَى الْقَلْبِ كَيْفِيَّةً فَيُحْدِثُ الْقَيْءَ، وَالْغَثَيَانَ، وَالْغَشْيَ، وَالْخَفَقَانَ، وَهُوَ لِرَدَاءَتِهِ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْأَعْضَاءِ إلَّا مَا كَانَ أَضْعَفَ بِالطَّبْعِ، وَأَرْدَأُ مَا يَقَعُ فِي الْأَعْضَاءِ الرَّعْشَةُ.
قَالَ أَعْنِي: ابْنَ سِينَا، وَالطَّوَاعِينُ تَكْثُرُ عِنْدَ الْوَبَاءِ، وَفِي الْبِلَادِ الْوَبِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ عَلَى الطَّاعُونِ أَنَّهُ وَبَاءٌ بِالْعَكْسِ قَالَ، وَأَمَّا الْوَبَاءُ فَهُوَ فَسَادُ جَوْهَرِ الْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الرُّوحِ، وَمَدَدُهُ اهـ.
فَعُلِمَ أَنَّ الطَّاعُونَ أَخَصُّ مِنْ الْوَبَاءِ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ «عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ» مَعَ حَدِيثِهِمَا «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهِيَ أَوْبَى أَرْضِ اللَّهِ» فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَبَاءَ يَدْخُلُهَا دُونَ الطَّاعُونِ فَكَانَ غَيْرَهُ، وَمِمَّا يُفَارِقُهُ فِيهِ خُصُوصُ سَبَبِهِ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْبَاءِ نَظِيرُهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ وَكَوْنُهُ مِنْ طَعْنِهِمْ لَا يُخَالِفُ مَا مَرَّ عَنْ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ مَادَّةٍ سُمِّيَّةٍ أَوْ هَيَجَانِ الدَّمِ أَوْ انْصِبَابِهِ إلَى عُضْوٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَحْدُثَ عَنْ الطَّعْنَةِ الْبَاطِنَةِ، فَيَحْدُثَ مِنْهَا الْمَادَّةُ السُّمَيَّةُ أَوْ يَهِيجُ بِسَبَبِهَا الدَّمُ أَوْ يَنْصَبُّ، وَعُذْرُ الْأَطِبَّاءِ فِي عَدَمِ تَعَرُّضِهِمْ لِكَوْنِهِ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ، وَإِنَّمَا يُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ فَتَكَلَّمُوا عَلَى مَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الطَّعْنِ بِقَدْرِ مَا اقْتَضَتْهُ قَوَاعِدُ عِلْمِهِمْ.
عَلَى أَنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ أَبْطَلَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ فَسَادِ الْهَوَاءِ بِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّهُ يَقَعُ فِي أَعْدِلْ الْفُصُولِ، وَفِي أَصَحِّ الْبِلَادِ هَوَاءً، وَأَطْيَبِهَا مَاءً، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الْهَوَاءِ لَعَمَّ النَّاسَ، وَالْحَيَوَانَاتِ، وَرُبَّمَا كَثُرَ عِنْدَ اعْتِدَالِهِ وَقَلَّ عِنْدَ فَسَادِهِ وَلَدَامَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ يَصِحُّ تَارَةً، وَيَفْسُدُ تَارَةً، وَالطَّاعُونُ يَأْتِي عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَلَا تَجْرِبَةٍ وَلَا انْتِظَامٍ فَرُبَّمَا جَاءَ سَنَةً عَلَى سَنَةٍ، وَرُبَّمَا أَبْطَأَ عِدَّةَ سِنِينَ، وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ دَاءٍ تَسَبَّبَ مِنْ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ لَهُ دَوَاءٌ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ عَلَى مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ وَهَذَا الطَّاعُونُ قَدْ أَعْيَا الْأَطِبَّاءَ دَوَاؤُهُ حَتَّى سَلَّمَ حُذَّاقُهُمْ أَنَّهُ لَا دَوَاءَ لَهُ إلَّا الَّذِي خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ اهـ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي فَتْحِ الْبَارِي: يَقَعُ فِي الْأَلْسِنَةِ، وَهُوَ فِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ تَبَعًا لِغَرِيبَيْ الْهَرَوِيِّ بِلَفْظِ «وَخْزُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» وَلَمْ أَرَهُ بِلَفْظِ إخْوَانِكُمْ بَعْدَ التَّتَبُّعِ الطَّوِيلِ الْبَالِغِ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدَةِ لَا فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ وَلَا الْأَجْزَاءِ الْمَنْثُورَةِ وَقَدْ عَزَاهُ بَعْضُهُمْ لِمُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ أَوْ كِتَابِ الطَّوَاعِينِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَلَا وُجُودَ لِذَلِكَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي كِتَابِ بَذْلِ الْمَاعُونِ فَقَالَ: مَا حَاصِلُهُ جَمِيعُ مَا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ «وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ» أَوْ بِلَفْظِ «طَعْنُ أَعْدَائِكُمْ» وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ، وَفِي لَفْظِ أَحْمَدَ " إخْوَانكُمْ " غَلَطٌ فِي الْمَتْنِ، وَالسَّنَدِ ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَاتِ الْمُسْنَدِ، وَمُعْجَمَ الطَّبَرَانِيِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
ثُمَّ هُوَ صَاحِبُ آكَامِ الْمَرْجَانِ فِي أَحْكَامِ الْجَانِّ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّبْلِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الْحَنَفِيُّ مِنْ تَلَامِذَةِ الْمِزِّيِّ، وَالذَّهَبِيِّ فِي الْحَدِيثِ فِي ذِكْرِهِ ذَلِكَ عَنْ مُسْنِدِ أَحْمَدَ وَكِتَابِ الطَّوَاعِينِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِلَفْظِ إخْوَانِكُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَلَا مِنْ كُتُبِ الْغَرِيبِ إلَّا فِي كِتَابِ الْغَرِيبَيْنِ لِلْهَرَوِيِّ، وَالنِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ لَفْظِ " إخْوَانِكُمْ " فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ " أَعْدَائِكُمْ " أُمُورٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الْأُخُوَّةَ فِي الدِّينِ لَا تُنَافِي الْعَدَاوَةَ؛ لِأَنَّ عَدَاوَةَ الْجِنِّ لِلْإِنْسِ بِالطَّبْعِ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ.