مَحْمَلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرَّةً: وَقَائِعُ الْأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ أَكْسَبَهَا الْعُمُومَ فِي الْمَقَالِ، فَهَذَا فِي الْوَاقِعَةِ الْقَوْلِيَّةِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ فِي الْمَقَالِ، وَقَوْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى: وَقَائِعُ الْأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ كَسَاهَا ثَوْبَ الْإِجْمَالِ، وَأُسْقِطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال، فَهَذَا فِي الْوَاقِعَةِ الْفِعْلِيَّةِ، كَوَضْعِ يَدِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى قَدَمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَمَّا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَسَّ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِأَنَّا لَا نَمْنَعُ دَفْعَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ إلَى الْأَصْلِ أَوْ الْفَرْعِ إلَّا إنْ كَانَ مَكْفِيًّا بِنَفَقَةِ قَرِيبِهِ الدَّافِعِ، لِأَنَّ دَفْعَهَا لَهُ حِينَئِذٍ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الدَّافِعِ عَلَى أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ غَنِيٌّ بِإِنْفَاقِ قَرِيبِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَكْفِيًّا بِنَفَقَةِ الدَّافِعِ كَأَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ حِينَئِذٍ الدَّفْعُ إلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ الْعُمُومِ الدَّالِ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ مَعْنًى خَصَّصَهُ بِغَيْرِ مَكْفِيٍّ بِنَفَقَةِ قَرِيبِهِ.
قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي أَيْضًا: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَبَ لَا رُجُوعَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى وَلَدِهِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ، وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِيهِمَا، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ لَوْ قَالَ يَزِيدُ أَبُو مَعْنٍ رَجَعْت، أَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ وَلَمْ يُمَكِّنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَعْنًا ظَنَّ أَنَّ أَخْذَ وَلَدِهِ لَا يُجْزِيهِ فَبَيَّنَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ يُجْزِيهِ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُلْهِمَنَا الْحَقَّ وَيُيَسِّرَ لَنَا اتِّبَاعَهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ عَمَّا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ مِنْ مُسْتَأْجِرِ الْأَرْضِ وَقْتَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ الْأُجْرَةِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُسْتَأْجِرِ حَرْبِيًّا أَوْ لَا، وَذَلِكَ عِنْدَ الْكَفَرَةِ قَاعِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ احْتِرَامًا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنْ اُعْتِيدَ الْإِهْدَاءُ إلَى الْمُؤَجِّرِ فَأَهْدَى الْمُسْتَأْجِرُ إلَيْهِ شَيْئًا بِطِيبِ نَفْسٍ لَا لِحَيَاءِ وَلَا لِظَنِّ كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ التَّبَرُّعِ وَإِيثَارِ فِعْلِ الْجَمِيلِ، جَازَ لَلْمُؤَجِّرِ الْقَبُولُ حِينَئِذٍ، وَمَتَى فُقِدَ شَرْطٌ مِمَّا ذَكَرْته لَمْ يَحِلَّ الْقَبُولُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ عَطَايَا الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ ظُلْمًا وَالْغَالِبُ عَلَى مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ الْحَرَامُ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا اقْتَرَضُوهَا، أَوْ اشْتَرَوْا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ وَاسْتَأْذَنُوا بِقَبْضِهِ، فَإِذَا أَعْطَوْا أَحَدًا مِنْهَا شَيْئًا وَجُهِلَ الْحَالُ، فَهَلْ يَجُوزُ قَبُولُهُ وَلَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ إذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ حَرَامًا؟ أَمْ يَحْرُمُ قَبُولُهُ؟ وَإِذَا قَبِلَهُ فَمَا حُكْمُ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَالصَّدَقَةِ مِنْهُ هَلْ يُثَابُ عَلَيْهَا كَمَا يُثَابُ فِي فِعْلِهِ مِنْ غَيْرِهَا أَمْ دُونَهُ أَمْ لَا يُثَابُ بَلْ يَأْثَمُ؟
وَقَوْلُهُ فِي جَوَاهِرِ الْقَمُولِيِّ (فَرْعٌ) لَوْ أَخَذَ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ بِتَمْلِيكٍ أَوْ إبَاحَةٍ ظَانًّا أَنَّهُ مِلْكُهُ اعْتِمَادًا عَلَى الظَّاهِرِ، وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ حَرَامًا هَلْ يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا؟ قَالَ الْبَغَوِيّ: إنْ كَانَ ظَاهِرُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْخَيْرَ فَأَرْجُو أَنْ لَا يُطَالَبَ وَإِلَّا طُولِبَ اهـ كَلَامُهُ، هَلْ هُوَ مُقِرٌّ عَلَى كَلَامِهِ هَذَا أَمْ لَا؟ وَلَا يَخْفَى عَلَى مَوْلَانَا فَسَّحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُدَّتِهِ اخْتِلَاطُ الْحَرَامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَقَدْ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ لِأُمُورٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ مَا يَضْرِبُهَا إلَّا السَّلَاطِينُ، وَلَا يُمَكَّنُ غَيْرُهُمْ أَنْ يَضْرِبَهَا لِمَا يَخْشَاهُ مِنْهُمْ وَلَوْ قَدَّرْنَا الْحِلَّ فَمُسْتَفِيضٌ أَنَّ الَّذِي يَضْرِبُهَا يَشْتَرِي فِضَّتَهَا بِعَقْدٍ لَا يَسْلَمُ فِيهِ مِنْ الرِّبَا، إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُؤَاخَذُ بِغَلَبَةِ الْحَرَامِ.
وَإِذَا قُلْتُمْ لَا مُؤَاخَذَةَ فِي ذَلِكَ، فَهَلْ يَحْصُل عَلَى مَنْ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إثْمٌ مِثْلَ تَوْسِيخِ قَلْبِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ؟ أَمْ لِأَنَّهُ وَافَقَ الظَّاهِرَ؟
(فَأَجَابَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: أَمَّا عَطَايَا الْمُلُوكِ فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْخَلَفِ فِي قَبُولِهَا، فَقَبِلَهَا قَوْمٌ اعْتِمَادًا عَلَى أُمُورٍ يَطُولُ بَسْطُهَا، وَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا آخَرُونَ وَرَعًا وَزُهْدًا، وَهَذَا الْأَحْوَطُ لِلدِّينِ وَالْعِرْضِ وَلَقَدْ وَقَعَ لِمِثْلِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُمْ أَحَسُّوا بِظُلْمَةِ قُلُوبِهِمْ لِتَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنْ بَعْضِ أَتْبَاعِ السَّلَاطِينِ، فَالْحَرَامُ بَاطِنًا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ، وَلَقَدْ تَعَفَّفَ حَتَّى عَنْ الْحَلَالِ خَوْفًا أَنْ يَقَعَ فِي