وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْفَرْقِ الَّذِي قَرَّرْته فِيمَا سَبَقَ قُلْت: لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ مُنَابِذٌ لِتَصْرِيحِ الْأَصْحَابِ بِخِلَافِهِ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ، بَلْ قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بِلَا خِلَافٍ وَحِينَئِذٍ فَاخْتِيَارُ ابْنِ الرِّفْعَةِ لَهُ مَرْدُودٌ أَيْضًا وَالشَّيْخَانِ إنَّمَا لَمْ يُضَعِّفَاهُ فِي بَابِ الصَّيْدِ لِلْعِلْمِ بِضَعْفِهِ مِمَّا ذَكَرَاهُ هُنَا فَبَانَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ، وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ فَإِنْ قُلْت: سَلَّمْنَا ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْفَرْقِ مَا فِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ وَنَقَلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهُ وَأَقَرُّوهُ مِنْ أَنَّ الدُّولَابَ الَّذِي يُدِيرُهُ الْمَاءُ إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي كِيزَانِهِ مَلَكَهُ صَاحِبُ الدُّولَابِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَقَاهُ بِنَفْسِهِ اهـ.
قَالَ غَيْرُهُ: وَفِي مَعْنَاهُ مَا يُدِيرُهُ بِدَابَّتِهِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى قُلْت: لَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ حِيَازَةُ الْمَاءِ فِي إنَائِهِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ نَصْبُهُ لِلدُّولَابِ عَلَى الْمَاءِ أَوْ إدَارَتُهُ لَهُ بِدَابَّتِهِ وَحِيَازَةُ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ مِنْ شَأْنِهَا فِي الْعَادَةِ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مِلْكَ الْمَاءِ، فَأَخَذَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ بِالْقَاعِدَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنْ فَرَّقَ فِيهَا بِخُصُوصِهَا الْقَصْدَ بِالْمَاءِ الَّذِي يُدِيرُهُ الدُّولَابُ أَوْ الدَّابَّةُ لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا مَا يُقْصَدُ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ إلْحَاقًا لِشَاذِّ الْجِنْسِ بِغَالِبِهِ وَطَرْدًا لِلْبَابِ، وَقَوْلُ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَقَوْلُهُ: النَّهْرُ الْمَمْلُوكِ لَيْسَ لِأَحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ إلَخْ جَوَابُهُ ظُهُورُ الْفَرْقِ بَيْنَ سَقْيِ الْأَرْضِ وَمَا بَعْدَهُ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ وَمُطَّرِدَةٌ بِأَنَّ النُّفُوسَ تَسْمَحُ مِنْ الْمَاءِ الْمَذْكُورِ بِنَحْوِ الشُّرْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ لِقِلَّةِ مَا يَذْهَبُ بِسَبَبِهِمَا مِنْ الْمَاءِ بِخِلَافِ سَقْيِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا لَمْ تَجْرِ بِالْمُسَامَحَةِ بِهِ لِكَثْرَةِ مَا يَذْهَبُ بِسَبَبِهِ.
فَإِنْ قُلْت يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الرَّوْضَةِ ضَمَّ إلَى الشُّرْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ سَقْيَ الدَّوَابِّ حِكَايَةً فِي الثَّلَاثَةِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ وَالْمُتَوَلِّي وَلَا شَكَّ أَنَّ سَقْيَ الدَّوَابِّ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ مِنْهَا وَهُوَ يَذْهَبُ بِسَبَبِهِ مَاءٌ كَثِيرٌ وَلَا يَسْمَحُ بِهِ مَعَ كَثْرَتِهِ غَالِبُ النَّاسِ قُلْت مَا نَقَلَهُ عَنْ الْعَبَّادِيِّ وَالْمُتَوَلِّي لَمْ يَنْفَرِدَا بِهِ، بَلْ جَرَى عَلَيْهِ أَيْضًا الْمَحَامِلِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ وَسُلَيْمٌ فِي تَقْرِيبِهِ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ هَؤُلَاءِ كَالرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَثِيرِ الدَّوَابِّ وَقَلِيلِهَا وَلَا بَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ بِسَبَبِ سَقْيِهَا نَقْصٌ فِي الْمَاءِ أَوْ لَا، وَحِينَئِذٍ فَيُشْكِلُ بِمَنْعِ سَقْيِ الْأَرْضِينَ وَيُجَابُ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ سَقْيِ الْأَرْضِ أَنَّهَا تَحْتَاجُ لِمَاءٍ أَكْثَرَ مِمَّا تَحْتَاجُهُ الْمَاشِيَةُ وَأَنَّ مُلَّاكَ الْقَنَوَاتِ وَالْأَنْهَارِ يَشِحُّونَ بِالتَّمْكِينِ مِنْ سَقْيِ الْأَرْضِ، وَإِنْ صَغُرَتْ بِخِلَافِ سَقْيِ الدَّوَابِّ، وَإِنْ كَثُرَتْ وَأَيْضًا فَسَقْيُ الْأَرْضِ يَلْزَمُ عَلَى التَّمْكِينِ مِنْهُ الضَّرَرُ عَلَى صَاحِبِ النَّهْرِ فَإِنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ التَّمْكِينُ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا عِنْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ أَنَّ مَالِكَ تِلْكَ الْأَرْضِ قَدْ يَدَّعِي بِأَنَّ لَهَا اسْتِحْقَاقَ شُرْبٍ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ، فَكَانَتْ خَشْيَةُ ذَلِكَ الضَّرَرِ مَانِعَةً مِنْ التَّمْكِينِ مِنْ سَقْيِ الْأَرَاضِي مِنْ النَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ مَاؤُهُ بَاقِيًا عَلَى إبَاحَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ وَتَبِعَهُ فِي الْوَسِيط كُلُّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي مَائِهَا يَعْنِي الْأَنْهَارَ وَالْقَنَوَاتِ الْمَمْلُوكَةَ بِمَا يُنْقِصُهُ وَيُظْهِرُ نَقْصَهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ حَتَّى يَسْقِيَ الْمَوَاشِيَ.
وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ كَالشُّرْبِ أَوْ سَقْيِ دَوَابَّ مَعْدُودَةٍ أَوْ أَخْذِ قِرَبٍ فَقَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ الْمَنْعُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ وَاسْتَمْسَكُوا بِقَوْلِهِ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَإِ.» ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي نَقَلْته عَنْ شَيْخِي فَإِنَّهُ انْتِفَاعٌ، وَذَهَبَ الْقَاضِي وَطَبَقَةُ الْمُحَقِّقِينَ إلَى إجْرَاءِ الْقِيَاسِ وَالْمَصِيرِ إلَى أَنَّ لِلْمُلَّاكِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ هَذَا، وَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ التَّسَامُحِ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَا يَضِنُّونَ بِهَذَا الْقَدْرِ فَصَارَتْ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ بِمَثَابَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِبَاحَةِ فَهُوَ كَمَا بَيَّنَهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ مُفَرَّعٌ عَلَى رَأْيِهِ الضَّعِيفِ السَّابِقِ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ مَاءَ الْأَنْهَارِ وَالْقَنَوَاتِ الْمَمْلُوكَةِ مَمْلُوكٌ كَمَاءِ الْبِئْرِ الْمَمْلُوكَةِ وَكَلَامُ الْأَوَّلِينَ أَعْنِي الْعَبَّادِيَّ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ مُفَرَّعٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ: الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ مِنْ الْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ إذَا كَانَ السَّقْيُ لَا يَضُرُّ بِمَالِكِهَا جَائِزٌ إقَامَةً لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ مَقَامَ اللَّفْظِيِّ، فَلَوْ أَوْرَدَ أَلْفًا مِنْ الْإِبِل إلَى جَدْوَلٍ ضَعِيفٍ فِيهِ مَاءٌ يَسِيرٌ فَلَا أَرَى جَوَازَ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ النَّهْرُ لِمَنْ لَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ كَالْيَتِيمِ وَالْأَوْقَافِ