وَاَللَّه أَعْلَم
(وَسُئِلَ) عَمَّا لَوْ اخْتَلَفَ الدَّافِعُ وَالْمَدْفُوعُ لَهُ بَعْدَ تَلَفِ الْمَدْفُوعِ فَادَّعَى الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ أَنَّهُ قِرَاض وَادَّعَى الدَّافِعُ أَنَّهُ قَرْض فَمَا الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ وَمَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مَعَ مُلَاحَظَة كَلَامِهِمْ آخِرَ الْعَارِيَّةِ؟
(فَأَجَابَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِأَنَّ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ وَالْخَادِمِ وَغَيْرُهُمَا تَصْدِيقُ الْمَالِك؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدَّعِي سُقُوطَ الضَّمَانِ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ الْمُقْتَضِي لِشَغْلِ الذِّمَّةِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَلِيٍّ الثَّقَفِيِّ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا فَتَصَرَّفَ فِيهَا فَرَبِحَ أَلْفًا، ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْقَابِضُ كَانَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ مَثَلًا وَقَالَ الْمَالِكُ كَانَ بِضَاعَةً أَيْ وَكَالَةً صَدَقَ الدَّافِعُ.
وَجَزَمَ بِهِ فِي الْبَحْرِ وَرَجَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا ادَّعَاهُ الْقَابِضُ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ لَوْ قَالَ مَالِك الدَّابَّةِ لِرَاكِبِهَا أَجَّرْتُكَهَا فَعَلَيْك الْأُجْرَةُ وَقَالَ الرَّاكِبُ أَعَرْتنِي صَدَقَ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إذْنِ الْمَالِكِ فِي إبَاحَةِ مَنَافِعِ دَابَّتِهِ مَجَّانًا وَخَالَفَ فِي مَسْأَلَتنَا ابْنُ الصَّلَاحِ فَأَفْتَى بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَابِضِ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ وَاخْتَلَفَا فِي شَغْلِ الذِّمَّةِ وَالْأَصْلُ بَرَاءَتهَا اهـ وَمَا قَالَهُ مَمْنُوعٌ وَإِنْ تَبِعَهُ الدَّمِيرِيُّ وَالْجَوْجَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِالتَّصَرُّفِ اشْتِغَالَ الذِّمَّةِ وَالْقَابِضُ يَدَّعِي سُقُوطَهُ فَكَانَتْ دَعْوَاهُ مُخَالِفَةً لِلْأَصْلِ فَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ وَمَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ إلَى مَا رَجَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَيَّدَهُ بِقَوْلِ الْبَغَوِيِّ لَوْ دَفَعَ أَلْفًا لِإِنْسَانٍ فَقَالَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ كَانَ وَدِيعَةً فَهَلَكَ فَقَالَ الدَّافِعُ بَلْ أَخَذْته قَرْضًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ غَصَبْتنِي فَقَالَ لَا بَلْ أَكْرَيْتَنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَنْفَعَةَ مَالِهِ، ثُمَّ ادَّعَى إسْقَاطَ الضَّمَانِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَخْذِهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ اهـ.
وَلَا شَاهِدَ فِيهِ لِمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الْجَلَالُ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْبَغَوِيِّ الْأُولَى أَعْنِي قَوْلَ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ قِرَاضٌ وَقَوْلُ الدَّافِعِ قَرْضُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا تَصَرُّفٌ يَقْتَضِي شَغْلَ الذِّمَّةِ بَلْ الذِّمَّةُ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَتِهَا فَلِذَا صَدَقَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتنَا فَقَدْ تَيَقَّنَّا الصَّرْفَ وَهُوَ مُقْتَضٍ لِشَغْلِ الذِّمَّةِ فَبَطَلَ أَصْلُ بَرَاءَتِهَا وَلَزِمَ مِنْ بُطْلَانِ هَذَا الْأَصْلِ تَصْدِيقُ الدَّافِعِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ عَضَّدَهَا تَيَقُّنُ شَغْلِ الذِّمَّةِ الْمُوَافِقِ لَهَا عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ الْبَغَوِيِّ الثَّانِيَةَ تُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْته مِنْ التَّوْجِيهِ فَكَلَامُهُ لَنَا لَا عَلَيْنَا فَتَأَمَّلْ وَمِمَّنْ تَبِعَ ابْنَ الصَّلَاحِ أَيْضًا الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ أَبُو زُرْعَةَ فَرَجَّحَ تَصْدِيقَ الْعَامِلِ بَعْدَ التَّلَفِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْعَارِيَّةِ السَّابِقَةِ بِأَنَّهُمَا ثَمَّ مُتَّفِقَانِ عَلَى عَدَمِ انْتِقَالِ مِلْكِ الْعَيْنِ لِلْآخِذِ بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا وَقَدْ انْتَفَعَ بِهَا وَمُدَّعٍ عَدَمَ الْعِوَضِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ سُقُوطِهِ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ يَقْتَضِي الْعِوَضَ اهـ.
وَيُرَدُّ بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّا فِي مَسْأَلَتنَا تَيَقَّنَّا التَّصَرُّفَ وَهُوَ مُقْتَضٍ لِشَغْلِ الذِّمَّةِ فَلَمْ يَصْدُقْ الْآخِذُ فَاتَّضَحَ أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي مَسْأَلَة الْعَارِيَّةِ شَاهِدُ عَدْلٍ عَلَى تَصْدِيقِ الدَّافِعِ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَمِنْ ثَمَّ جَرَى عَلَيْهِ فِي الْأَنْوَارِ وَقَالَ الْبَغَوِيّ إنَّهُ مُتَعَيِّنٌ وَبِهِ أَفْتَى شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا سَقَى اللَّه عَهْدَهُ، وَأَمَّا مَا فِي مِنْهَاجِ الْقُضَاةِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا وَتَلِفَ فِي يَدِهِ فَقَالَ دَفَعْته قَرْضًا وَقَالَ الْآخَرُ وِكَالَةً صَدَقَ الدَّافِعُ. اهـ.
فَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْمُعْتَمَدُ تَصْدِيقُ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ نَظِيرَ مَسْأَلَةِ الْبَغَوِيِّ وَبِمَا قَرَّرْته يُعْلَمُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَتِنَا فِيمَا إذَا كَانَ التَّلَفُ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْقَابِضِ فَيَصْدُقُ الدَّافِعُ حِينَئِذٍ لِمَا قَدَّمْته أَمَّا إذَا وَقَعَ التَّلَفُ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَالْمُصَدَّقُ حِينَئِذٍ هُوَ الْقَابِضُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِذْنِ وَاخْتَلَفَا فِي شَغْلِ الذِّمَّةِ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِمَا قَالَ الشَّيْخَانِ وَلَوْ أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا قَالَهُ قَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ بَيِّنَةُ الْقَابِضِ أَوْلَى فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اهـ.
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الْحَقَّ التَّعَارُض وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ الْأَوْجَهُ مَا بَحَثَهُ أَبُو زُرْعَةَ مِنْ تَرْجِيحِ بَيِّنَةِ الدَّافِعِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ بِالِانْتِقَالِ إلَى الْآخِذِ، وَاَللَّهُ أَعْلَم.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَمَّنْ قَارَضَ شَخْصًا فَاشْتَرَى وَبَاعَ فَلَمَّا نَضَّ الثَّمَنُ وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ رِبْحٌ أَخَذَ الْعَامِلُ مَالًا مِنْ عِنْدِهِ وَأَضَافَهُ إلَى مَالِ