لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ أَجْمَعَ لِهَمِّهِ وَأَصْلَحَ لَهُ هَلْ يَمْشِي هَذَا عَلَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَمْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ مُعَامَلَاتِ الْقُلُوبِ؟
(فَأَجَابَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِقَوْلِهِ نَقَلْت فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَفْتَى بِأَفْضَلِيَّةِ الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ ثُمَّ رَدَدْته بِمَا هُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى تَمَايُزِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِمَا وَرَدَ فِي ثَوَابِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ثَوَابِ هَذِهِ الْجِلْسَةِ مِنْ الثَّوَابِ مَا لَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي الطَّوَافِ بَلْ لَك أَنْ تَقُولَ إنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَهُ ثَوَابُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا عَلَى خُصُوصِ الطَّوَافِ لِأَنَّهَا إذَا سَاوَتْ الْحَجَّةَ وَالْعُمْرَةَ التَّامَّتَيْنِ.
الطَّوَافُ بَعْضُ أَجْزَائِهِمَا لَزِمَ زِيَادَتُهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ وَإِنَّمَا كَانَ الْأَفْضَلُ قَطْعُ الصَّلَاةِ فِيمَا ذُكِرَ أَوَّلًا لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ حَرَّمَ الِاسْتِمْرَارَ فِيهَا وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَثَانِيًا لِفَوَاتِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْلِهَا وَالطَّوَافُ هُنَا لَا يَفُوتُ لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ حِينَئِذٍ فِيهِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَنُدِبَ قَطْعُهُ كَالسَّعْيِ لِلْجَمَاعَةِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَيْضًا أَعْنِي بَقَاءَ تَدَارُكِهِمَا بِخِلَافِهَا وَكَذَا يُقَالُ فِي طَوَافِ النَّفْلِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَقَوْلُ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ إلَخْ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْته بِفَرْضِ تَسْلِيمِهِ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي التَّفْضِيلِ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِ لَا بِاعْتِبَارِ الْإِفْرَادِ.
أَلَا تَرَى إلَى تَفْضِيلِهِمْ الصَّلَاةَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ قَالُوا الْمُرَادُ الْجِنْسُ فَلَا يُقَالُ أَنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ فَكَذَا هُنَا سَلَّمْنَا أَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ مِمَّا يُقَالُ فِي هَذِهِ الْجِلْسَةِ لَكِنَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِ لَا لِخُصُوصِ هَذَا الْفَرْدِ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجِلْسَةِ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ وَحَبْسِهَا عَلَيْهَا مَا لَا يُوجَدُ فِي الطَّوَافِ غَالِبًا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَزَعَمَ أَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ مِنْ الْعُمْرَةِ مَرْدُودٌ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ كَيْفَ وَهِيَ لَا تَقَعُ إلَّا فَرْضًا بِخِلَافِهِ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْفَرْضِ وَغَيْرِهِ وَعَدَمُ نَقْلِ تُكَرِّرْهَا لَا يُنَاسَبُ قَوَاعِدَنَا فَاسْتِدْلَالُ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ بِهِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ.
وَمَا نُقِلَ عَنْ الْمَجْمُوعِ لَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ لَكِنَّ وَجْهَهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ مَخْصُوصٍ يَكُونُ الِاشْتِغَالُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْقِرَاءَةِ وَمَا نُقِلَ عَنْ عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ اخْتِيَارٌ لَهُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ خِلَافُهُ فَيَلْزَمُ مَوْضِعَهُ ثُمَّ يُكَلِّفُ نَفْسَهُ الْحُضُورَ وَالْإِخْلَاصَ مَا أَمْكَنَهُ لِأَنَّ هَذَا أَشُقُّ عَلَيْهَا مِنْ الِانْتِقَالِ وَالْمَدَارُ فِي تَهْذِيبِ أَخْلَاقِهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى تَجْرِيعِهَا مَرَارَةَ الصَّبْرِ عَلَى أَنْ تَأْتِي بِالْمَأْمُورَاتِ عَلَى وَجْهِهَا مَا أَمْكَنَهَا وَحَاصِلُ مَا مَرَّ أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ إجْمَاعَهُمْ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الْجِلْسَةِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي طَلَبِ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ عَلِمَ أَفْضَلِيَّتَهَا عَلَيْهِ وَأَنَّ قَطْعَ النَّظَرِ عَمَّا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا يَشْهَدُ لِفَضْلِهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمَرْمَى فِي الْجِمَارِ الثَّلَاثِ هَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِالْأَعْلَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَنْصُوبَةِ مِنْ جِهَاتِهَا الْأَرْبَعِ حَتَّى يُجْزِئَ الرَّمْيُ فِيهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ يُسَنُّ لِلرَّامِي أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَجْعَلَ الْجَمْرَةَ عَنْ يَمِينِهِ أَمْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِجِهَةِ الْجَادَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُحَقَّقُ إذْ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا عَدَاهُ مَظْنُونٌ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الشَّاخِصِ مَوْضُوعًا فِي مُنْتَهَى الْمَرْمَى مِنْ جِهَةِ مَكَّةَ لَا فِي وَسَطِهِ حَتَّى يُجْزِئُ الرَّمْيُ فِيمَا إذَا اسْتَقْبَلَ الْجَمْرَةَ وَاسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ مَثَلًا أَمْ يُفَرَّقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَيَكُونُ فِيهِمَا مُحِيطًا بِالشَّاخِصَيْنِ وَفِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ خَاصًّا بِجِهَةِ الْجَادَّةِ وَهَلْ ضَبْطُ الْمَرْمَى بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْجَمَالُ الطَّبَرِيُّ مُعْتَمَدٌ أَمْ يُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِهِ إلَى الْعُرْفِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي صَرَّحُوا بِهِ أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْجَمْرَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ فَهِيَ لَيْسَ لَهَا إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ مَا بِأَسْفَلِهَا عَلَى الْجَادَّةِ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهَا وَأَمَّا الْجَمْرَتَانِ الْآخِرَتَانِ فَيُرْمَى إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ كَمَا يُومِئُ إلَيْهِ نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ وَعِبَارَةُ الْمَجْمُوعِ عَنْ النَّصِّ الْجَمْرَةُ مُجْتَمَعُ الْحَصَى لَا مَا سَالَ مِنْهُ فَمَنْ أَصَابَ مُجْتَمِعَهُ أَجُزْأَهُ أَوْ سَائِلَهُ فَلَا وَالْمُرَادُ مُجْتَمِعُهُ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ مَا حُوِّلَ عَنْهُ وَلَوْ نَحَّاهُ