الظَّنُّ وَيَرُدُّهُ أَنْ جَمْعًا عَبَّرُوا بِالظَّنِّ ثُمَّ مَوْضِعِ الِاعْتِقَادِ، وَمِنْهَا وَهُوَ أَجْوَدُهَا وَأَحْسَنُهَا: أَنَّ إخْبَارَ مَنْ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ إمَّا أَنْ يُفِيدَ مُجَرَّدَ ظَنِّ الصِّدْقِ وَهُوَ مَا هُنَا أَوْ ظَنِّ الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يُعَارِض ظَنَّهُ مُعَارِضٌ وَهُوَ مَا فِيهِ النِّيَّةُ، أَوْ يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ تَصْدِيقُهُ بِأَنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا مَرَّ أَوَّل الْبَابِ فَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ مَا أَطْلَقَهُ الْمُفْتِي الْمَذْكُورَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إطْلَاقِهِ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ بَعْض الْمُفْتِينَ فِي صِيَاحِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إعْلَامًا بِرَمَضَانَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إطْلَاقِهِ أَيْضًا فَقَدْ ذَكَر الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رُؤْيَةَ الْقَنَادِيلِ مَوْقُودَةً عَلَى الْمَنَائِرِ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ كَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ؛ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ مُطَّرِدَةٌ فَكَانَتْ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الصِّيَاحَ لَوْ كَانَ عَلَامَةً مُطَّرِدَةً عِنْد أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ عَلَى دُخُولِ رَمَضَان جَازَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ بَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ اعْتِمَادَهُ فِي الصَّوْمِ وَأَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، وَأَمَّا مَا ذَكَره الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ فِي جَوَابِ قَوْلِ السَّائِلِ إذَا رُئِيَ الْهِلَال بِمَكَّةَ وَلَمْ يُرَ بِأَرْضِ بَجِيلَةَ فَهُوَ صَحِيحٌ وَالْحَاصِلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِاتِّحَادِ الْمَطَالِعِ وَاخْتِلَافِهَا لَا بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ قَالَ فِي الْأَنْوَارِ وَالْمُرَادُ بِاخْتِلَافِهَا أَنْ تَتَبَاعَد الْبُلْدَان بِحَيْثُ لَوْ رُئِيَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يُرَ فِي الْآخَرِ غَالِبًا اهـ.
قَالَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ التَّبْرِيزِيُّ: وَرُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِي بَلَدٍ تُوجِبُ ثُبُوت حُكْمِهَا إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا؛ لِأَنَّهَا فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَا تَخْتَلِف وَقَالَ السُّبْكِيّ وَالْإِسْنَوِيُّ قَدْ تَخْتَلِفُ وَتَكُون رُؤْيَته فِي أَحَدِهِمَا مُسْتَلْزِمَةً لِرُؤْيَتِهِ فِي الْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ إذْ اللَّيْلَةُ تَدْخُل فِي الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الْغَرْبِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَم عِنْد اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ مَنْ رُؤْيَتِهِ فِي الشَّرْقِيّ رُؤْيَتُهُ فِي الْغَرْبِيّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَأَمَّا عِنْد اتِّحَادِهِمَا فَيَلْزَم مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي أَحَدِهِمَا رُؤْيَتُهُ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَقْتَ الزَّوَالِ أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ وَرِثَ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ لِتَقَدُّمِ مَوْتِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ لَوْ شَاعَتْ رُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ بِبَلَدٍ مَثَلًا وَلَمْ يَتَحَقَّق لَنَا رُؤْيَتُهُ أَوْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ مَنْ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ أَوْ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَقُلْتُمْ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ إلَّا عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ فَهَلْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ - أَصْلَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْبَلَدِ الَّتِي بَعُدَتْ عَنْ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ نَدْبُ مَنْ يُحَقِّقُ الْخَبَرَ لَهُ لُزُومًا أَوْ نَدْبًا قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ أَمْ بَعُدَتْ أَوْ لَا يَجِب شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهَلْ يَثْبُت رَمَضَانُ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَوْ التَّوَاتُرِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْإِشَاعَةُ وَالِاسْتِفَاضَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ وَلَوْ بَلَغَ الْخَبَرُ أَهْلَ بَلَدٍ بِأَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ أَخَذُوا مَالًا لِمُسْلِمٍ وَرَجَوْا اسْتِنْقَاذَهُ مِنْهُمْ فَهَلْ لَهُمْ الْفِطْرُ مِنْ رَمَضَانَ إنْ تَوَقَّفَ اسْتِنْقَاذُهُمْ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُمْ أَيْ الْقُطَّاعَ وَلَا عَلِمُوا عَدَدَهُمْ وَلَا أَيْنَ ذَهَبُوا أَوْ يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمَنْ رَآهُمْ وَحَقَّقَ الِاسْتِنْفَاذَ مِنْهُمْ بِظَنٍّ مُؤَكَّدٍ وَهَلْ خَوْفُ الْمَشَقَّةِ الَّتِي عِيلَ مَعَهَا الصَّبْرُ تُبِيحُ الْفِطْرَ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ مَحْذُورِ التَّيَمُّمِ وَلَوْ وَقَعَ الْبَذْرُ أَوْ الْحَصَادُ أَوْ تَنْقِيَةُ الزَّرْعِ فِي رَمَضَانَ وَلَا يُطَاقُ الصَّوْمُ مَعَهُ فَهَلْ يَجُوزُ الْفِطْرُ لِمَنْ لَحِقَهُ بِذَلِكَ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ كَمَا ذَكَره الْأَذْرَعِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَصَادِ فَإِنْ قُلْتُمْ بِذَلِكَ فَمَا الْمُرَادُ بِالْمَشَقَّةِ فِي كَلَامه هَلْ هِيَ خَشْيَةُ مَحْذُورِ التَّيَمُّمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَمَا هُوَ وَهَلْ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ خَبَرُ عَارِفٍ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ فَإِنْ قِيلَ بِهِ فَهَلْ يَجْرِي فِي جَمِيعِ مُسَوِّغَاتِ الْفِطْرِ أَوْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا؟
(فَأَجَابَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ الظَّاهِرُ أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ لَا يَلْزَمُهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إرْسَالُ مَنْ يُحَقِّقُ الْخَبَرَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ تَحْصِيلَ سَبَبِ الْوُجُوبِ لَا يَجِب وَهَذَا أَعْنِي الْإِرْسَالَ الْمَذْكُورَ تَحْصِيلٌ لِسَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِدُخُولِ رَمَضَان الْمُوجِبُ لِلصَّوْمِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ وُجُوبِ تَحْصِيلِ سَبَبِ الْوُجُوب كَمَا عَلِمْت فَلَا يَجِب ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ لَك أَنْ تَقُولَ هَذَا يُعْلَم عَدَمُ وُجُوبِهِ مِنْ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى لِأَنَّهُمْ إنَّمَا نَفَوْا وُجُوبَ تَحْصِيلِ السَّبَبِ الْمُحَقَّقِ الَّذِي إذَا حَصَلَ لَزِمَهُ مِنْهُ الْوُجُوبُ كَالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ لِنَحْوِ الْمُتَمَتِّعِ الْمُعْسِر الْمُرِيدِ لِلصَّوْمِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا السَّبَبُ لَيْسَ مُحَقَّقًا؛ لِأَنَّهُمْ شَاكُّونَ هَلْ صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ مُتَّحِدٍ مَعَ بَلَدِهِمْ فِي الْمَطْلَعِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي بَلَدِهِمْ