بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ قَوْلَ الرَّائِينَ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَيْرِ إلَّا إذَا أَدَّى عِنْد قَاضٍ أَوْ مُحَكَّمٍ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ كُلِّهِمْ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ شِهَابُ الدِّينِ ابْنُ الْعِمَادِ فِي تَوْقِيفِ الْحُكَّامِ لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَان لَمْ يَلْزَم الصَّوْم عَلَى الصَّوْم تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ اهـ.
فَحِينَئِذٍ الْحَاصِلُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الشُّهُودَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ عِنْد رُؤْيَةِ الْقَاضِي أَوْ الْمَنْصُوبِ أَوْ الْمُحَكَّمِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لَا تُقْبَلُ كَشَهَادَةِ بَجِيلَةَ بَعْضُهُمْ عِنْدَ بَعْضٍ، وَإِذَا لَمْ تُقْبَل حُرِّمَ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَان بِشَهَادَتِهِمْ لِمَنْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ رَآهُ فَنَقَلَ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ سُلَيْمٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُت لَمْ يُجْزِئْهُ صَوْمُهُ وَمُقْتَضَى كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُهُ وَيُجْزِئْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم، وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ إذَا رَأَى الْهِلَالَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ وَلَمْ يَرَ بِأَرْضِ بَجِيلَةَ فَمَا يَكُون الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ - فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطَالِعَ قَدْ تَخْتَلِفُ فَيَلْزَم مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي الشَّرْقِيِّ رُؤْيَتُهُ فِي الْغَرْبِيِّ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ يَدْخُلُ فِي الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْبِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ وَعَلَى ذَلِكَ حَدِيث كُرَيْبٍ فَإِنَّ الشَّامَ غَرْبِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَتِهِ بِالشَّامِ رُؤْيَتُهُ بِالْمَدِينَةِ كَذَا قَالَ الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فَعَلَى هَذَا قَالَ الْقَاضِي بُرْهَانُ الدِّينِ إبْرَاهِيمُ بْنُ ظَهِيرَةَ قَاضِي مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ بَجِيلَةُ شَرْقِيُّ مَكَّةَ فَيَلْزَمُ مِنْ الرُّؤْيَةِ بِبَجِيلَةَ الرُّؤْيَةُ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ وَلَا عَكْسَ اهـ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ وَحَيْثُ قُلْنَا لَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ فَسَارَ شَخْصٌ مِنْ مَوْضِعٍ رُئِيَ فِيهِ إلَى حَيْثُ لَمْ يُرَ وَاسْتَكْمَلَ ثَلَاثِينَ وَلَمْ يُرَ فِي الْبَلَدِ الثَّانِي فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ لِأَنَّ «ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَ كُرَيْبًا بِذَلِكَ حِين قَالَ اسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَقُلْت لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ قَالَ أَنْتَ رَأَيْت الْهِلَالَ قُلْت نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى يُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ فَقُلْت أَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَالنَّاسِ؟ فَقَالَ لَا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيَاسًا عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ لِكُلِّ بَلْدَةٍ حُكْمَهَا مِنْ الطَّوَالِعِ وَالْغَوَارِبِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكِفَايَةِ أَيْضًا.
قَالَ الشَّيْخُ الْمُقْرِي فِي التَّمْشِيَةِ: فَإِنَّ الشَّمْسَ قَدْ تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ فَيَفُوتهُمْ الصُّبْحُ وَغَيْرُهُمْ حِينَئِذٍ فِي لَيْلٍ يُمْكِنُهُمْ أَدَاءُ الْعِشَاءِ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ وَقْتُ الصَّوْمَ بِمَطَالِعِ الْفَجْرِ انْتَهَى كَلَامُ التَّمْشِيَةِ قَالَ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ وَحَدِيثُ كُرَيْبٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَذَكَره الْقَفَّالُ وَمَنْ تَبِعَهُ وَاعْتَمَدُوهُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْد أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ حَسَنٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَهُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ كَبِيرٍ لَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَوْلُ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ اهـ قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْنَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: وَلَا شَكَّ أَنَّ مَوْرِدَ النَّصِّ وَهُوَ حَدِيثُ كُرَيْبٍ السَّابِق فِي الشَّامِ وَالْحِجَازِ وَقَدْ وُجِدَ فِيهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ وَاخْتِلَافُ الْإِقْلِيمِ وَاخْتِلَافُ الْمَطَالِعِ وَاحْتِمَالُ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَاسْتَنَدَ كُلُّ طَائِفَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَأَيَّدَ بِهِ اهـ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ نَجْمِ الدِّينِ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَحَيْثُ قُلْنَا لَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ قَالَ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدنَا وَصَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ انْتَهَى جَوَابُ هَذَا الْمُفْتِي. فَهَلْ يَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ جَوَابُكُمْ كَذَلِكَ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَتَّعَ الْمُسْلِمِينَ بِحَيَاتِهِ وَنَفَعَهُمْ بِمَعْلُومَاتِهِ بِقَوْلِهِ أَمَّا مَا ذَكَره الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُمْ لِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ إلَخْ لَا مُطَابِقَةَ فِيهِ بَيْن الْعِلَّةِ وَالْمُعَلَّلِ،؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِعُمُومِ النَّاسِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَخْبَرَهُ مَنْ يَثِق بِهِ بِأَنَّهُ رَآهُ هَلْ يَلْزَمهُ الصَّوْمَ أَوْ لَا وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُمْ هَذَا فِي ثُبُوتِ رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِعُمُومِ النَّاسِ.
ثَانِيهَا أَنَّ قَوْلَهُ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَتُعْتَبَر الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ إلَخْ ضَعِيفٌ وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَإِنْ