الصُّفْرَةَ» .
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - هَلْ الْعِمَامَةُ الْكَبِيرَةُ وَاَلَّتِي بِلَا عَذْبَةٍ وَتَحْنِيكٍ مَكْرُوهَةٌ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنْ كَانَ كَبَّرَهَا لِعُذْرِ بَرْدٍ وَنَحْوِهِ أَوْ لِكَوْنِ كِبَرِهَا مِنْ شِعَارِ عُلَمَاءِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَهُوَ مِنْهُمْ وَلَا يُعْرَفُ وَيُقْتَدَى بِقَوْلِهِ: وَيُمْتَثَلُ أَمْرُهُ إلَّا إنْ كَانَ عَلَيْهِ شِعَارُهُمْ فَلَا كَرَاهَةَ فِي كِبَرِهَا بَلْ هُوَ حِينَئِذٍ بِقَصْدِ الْعُذْرِ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ لِأَنَّ التَّوَقِّي عَنْ الْآفَاتِ وَالْمَهَالِكِ مَنْدُوبٌ بَلْ وَاجِبٌ إنْ انْحَصَرَ ذَلِكَ التَّوَقِّي فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ وَلِأَنَّ اتِّخَاذَ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ هُوَ مِنْهُمْ وَتَوَقَّفَتْ مَعْرِفَةُ كَوْنِهِ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِنَشْرِ الْعِلْمِ وَهِدَايَةِ الضَّالِّينَ وَإِرْشَادِ الْمُسْتَرْشِدِينَ فَإِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى شِعَارِهِمْ تَعَيَّنَ لُبْسُهُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ الْحَسَنِ وَكَذَا يُقَالُ فِي لُبْسِ الطَّيْلَسَانِ وَالثِّيَابِ الْوَاسِعَةِ الْأَكْمَامِ إذَا عُرِفَتْ مِنْ شِعَارِهِمْ وَتَوَقَّفَتْ الْهِدَايَةُ وَالِامْتِثَالُ لِلْأَوَامِرِ عَلَيْهَا وَمِنْ ثَمَّ قَالَ سُلْطَانُ الْعُلَمَاءِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كُنْت فِي الْمَطَافِ وَلَيْسَ عَلَيَّ شِعَارُ الْعُلَمَاءِ فَأَمَرْت فَلَمْ يُمْتَثَلْ لِي فَذَهَبْت وَلَبِسْت شِعَارَهُمْ فَأَمَرْت فَامْتُثِلَ لِي وَوَقَعَ ذَلِكَ لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا فِي الْحَجِّ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ لُبْسُ ثِيَابِ السَّفَرِ فَأَمَرَ فَقِيلَ لَهُ مَا بَقِيَ عَلَى النَّاسِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إلَّا الْحَمَّالُونَ قَالَ فَلَمَّا تَحَلَّلْت وَلَبِسْت ثِيَابَ الْعُلَمَاءِ أَمَرْت فَامْتُثِلَ لِي فَوْرًا فَمَنْ لَبِسَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِهَذَا الْقَصْدِ الصَّالِحِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا كَرَاهَةَ فِي حَقِّهِ.
وَالْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلَا نَظَرَ لِمَا قِيلَ: مَنْ صَدَقَ فِي أَمْرِهِ اُمْتُثِلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْ كَانَ لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ وَقَعَ فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ صَلَاحِ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ وَأَمَّا عِنْدَ فَسَادِهِمَا وَاغْتِرَارِ النَّاسِ بِالصُّوَرِ وَمَا وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِهَا وَتَعْظِيمِ أَهْلِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي صَارَ الِامْتِثَالُ وَالِاهْتِدَاءُ بِالْعَالِمِ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهَا. وَهَذَا مِمَّا لَا مَسَاغَ لِإِنْكَارِهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ جَمِيعُ مَا أَطْلَقَهُ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ فِي إنْكَارِهِ لِذَلِكَ وَفِيهِ عَنْ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ أَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِهِ وَكَذَا الْعِمَامَةُ وَالْعَذَبَةُ وَأَنَّ الرِّدَاءَ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفًا وَنَحْوَهَا وَالْعِمَامَةُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَنَحْوُهَا يُخْرِجُونَ مِنْهَا التَّلْحِيَةَ وَالْعَذَبَةَ وَالْبَاقِي عِمَامَةٌ وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرِ «أَنَّ رِدَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَنِصْفًا» .
وَعَنْ الطُّرْطُوشِيِّ أَنَّهُ قَالَ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ بِالتَّلَحِّي وَنَهَى عَنْ الِاقْتِعَاطِ» قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَعَطَ الرَّجُلُ عِمَامَتَهُ يَقْعَطُهَا اقْتِعَاطًا أَدَارَهَا عَلَى رَأْسِهِ. وَلَمْ يَتَلَحَّ بِهَا وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ وَالْمُقْعَطَةُ الْعِمَامَةُ وَأَخَذَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ فِعْلِ السَّلَفِ لَهُ كَرَاهَةَ تَرْكِ التَّحْنِيكِ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ تَحْتَ ذَقَنِهِ شَيْءٌ مِنْهَا وَبَالَغَ الطُّرْطُوشِيُّ فَعَدَّ تَرْكَهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي شَاعَتْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ رَأَى مَنْ اعْتَمَّ وَلَمْ يَتَحَنَّك فَقَالَ تِلْكَ عِمَامَةُ الشَّيْطَانِ وَعَمَائِمُ قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْمُؤْتَفِكَاتِ وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْقِبْطِ وَأَنْكَرَهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ قَصِيرَةً لَا تَبْلُغُ وَهَذَا كُلُّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَنْ خَالَفَ مَالِكًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا صَحَّ مَا ذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلَا أَنَّ هَذَا شِعَارُ الْقِبْطِ وَالْكَرَاهَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُسْتَنَدٍ وَلَا يُقْنَعُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ مَا ذُكِرَ كَمَا يُعْرَفُ مِنْ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ وَبِتَسْلِيمِ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَحْتَنِكُونَ وَأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ لِمُدَّعِي ذَلِكَ أَنْ يُثْبِتَهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ فَمُخَالَفَتُهُ لَا تَكُونُ مَكْرُوهَةً هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّحْنِيكِ.
وَأَمَّا الْعَذَبَةُ فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلُهَا وَصَحَّ عَنْهُ تَرْكُهَا فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهَا حَرَجٌ وَإِذَا فَعَلَهَا فَإِنْ شَاءَ أَسْدَلَهَا أَمَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ بَيْنَ كَتِفَيْهِ لِأَنَّهُ جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ التَّحْنِيكِ وَالْعَذَبَةِ. بِأَنَّ اللُّبْسَ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كَيْفِيَّاتِهِ الْإِبَاحَةُ حَتَّى يَرِدَ مَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي تَرْكِ التَّلْحِيَةِ وَالْعَذَبَةِ شَيْءٌ يُحْتَجُّ بِهِ لِلْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَانْدَفَعَ تَعَجُّبُ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَ اللُّبْسُ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ مُطْلَقًا إذْ الْغَرَضُ مِنْهُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالسُّنَّةُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتُرَ جَمِيعَ بَدَنِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِذَلِكَ.