الْبَيِّنَةَ وَيَحْكُمُ بِالْمُدَّعَى أَوْ لَا يَقْبَلُهَا حَتَّى يَسْأَلَ الشُّهُودَ لِكَوْنِهِ يَعْلَمُ أَيْ الْمُحَكَّمُ أَنَّ الشُّهُودَ لَا يَعْرِفُونَ الِاسْتِحْقَاقَ أَمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِأَنَّ الْمُحَكَّمَ لَيْسَ كَالْحَاكِمِ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ كَمَا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ فِي بَعْضِ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي هِيَ وَاصِلَةٌ إلَيْكُمْ فَحِينَئِذٍ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ وَلَا بِخِلَافِ عِلْمِهِ وَقَوْلُ السَّائِلِ فَإِذَا عَلِمَ الْمُحَكَّمُ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الشَّاهِدَ هَلْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِاسْتِحْقَاقِ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو دِرْهَمًا مَثَلًا إذَا عَرَفَ سَبَبَهُ كَأَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَشَهِدَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دِرْهَمًا وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ.
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ ابْنِ أَبِي الدَّمِ أَشْهَرُهُمَا لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي مَذْهَبِهِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِسَبَبٍ سَبَبًا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ الْأَحْكَامَ عَلَى أَسْبَابِهَا بَلْ وَظِيفَتُهُ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ مَا شَاهَدَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ ثُمَّ الْحَاكِمُ يَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ رَآهُ سَبَبًا رَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ.
وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ كَغَيْرِهِ بَعْد اطِّلَاعِهِ عَلَى النَّصِّ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَيُنْدَبُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الشَّاهِدَ عَنْ جِهَةِ الْحَقِّ إذَا لَمْ يَثِقْ بِشِدَّةِ عَقْلِهِ وَقُوَّةِ حِفْظِهِ وَاَلَّذِي يَتَّجِه حَمْلُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمُوَافِقِ لِلنَّصِّ عَلَى شَاهِدٍ غَيْرِ فَقِيهٍ فَلَا يَكْتَفِي الْحَاكِمُ مِنْهُ بِإِطْلَاقِ السَّبَبِ وَالثَّانِي عَلَى فَقِيهٍ لَا يَجْهَلُ تَرَتُّبَ الْمَشْهُودِ بِهِ عَلَى سَبَبِهِ فَلَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ شَهَادَتَهُ بِمُطْلَقِ الِاسْتِحْقَاقِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ يَجِبُ فِيهَا تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ كَأَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِعَيْنٍ ثُمَّ ادَّعَاهَا وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَوْ بِتَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَا تُسْمَعُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُصَرِّحَ الْمُدَّعِي وَالْبَيِّنَة بِنَاقِلٍ مِنْ جِهَةِ الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ وَكَالشَّهَادَةِ بِالرِّدَّةِ عَلَى خِلَافٍ فِيهَا أَوْ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ بِالسَّرِقَةِ أَوْ بِأَنَّ نَظَرَ الْوَقْفَ الْفُلَانِيِّ لِفُلَانٍ أَوْ بِأَنَّ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ أَوْ بِبَرَاءَةِ الْمَدِينِ مِنْ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى بِهِ أَوْ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ أَوْ بِالرُّشْدِ أَوْ بِأَنَّ الْعَاقِدَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَائِلَ الْعَقْلِ فَيُبَيِّن زَوَالَهُ أَوْ بِالْجُرْحِ أَوْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ بِالرَّضَاعِ أَوْ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِالْقَتْلِ أَوْ بِأَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ لِأَنَّ الْحَالَ يَخْتَلِفُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ أَوْ بِأَنَّهُ بَلَغَ بِالسِّنِّ فَيُبَيِّنهُ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ بِمُطْلَقِ الْبُلُوغِ أَوْ بِأَنَّ فُلَانًا وَقَفَ دَارِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَصْرِفِ الْوَقْفِ بِخِلَافِهَا بِأَنَّ فُلَانًا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ فَإِنَّهَا تُسْمَعُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَصْرِفَ وَلَا الْمُوصَى بِهِ وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّفْصِيلُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أَسْبَابِهَا وَأَحْكَامِهَا وَيُلْحَقُ بِهَا فِي ذَلِكَ مَا يُشَابِهُهَا نَعَمْ لَوْ شَهِدَا عَلَى امْرَأَةٍ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا جَازَ فَإِنْ سَأَلَهُمَا الْحَاكِمُ هَلْ يَعْرِفَانِ عَيْنَهَا فَلَهُمَا أَنْ يَسْكُتَا أَوْ يَقُولَا لَا يَلْزَمُنَا الْجَوَابُ وَهَذَا فِي الشَّاهِدِ الضَّابِطِ الْعَارِفِ وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا وَتَلْزَمَهُمَا الْإِجَابَةُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(سُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ مَسْأَلَةٍ وَقَعَ فِيهَا جَوَابَانِ مُخْتَلِفَانِ صُورَتُهُمَا بِلَادٌ لَيْسَ فِيهَا سُلْطَانٌ وَلَا قَاضٍ وَفِيهَا قَبَائِلُ لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْعُدُولِ إلَّا الْقَلِيلُ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيد الْحُكْمَ بَيِّنَهُمْ أَنْ يَبْحَث عَنْ حَالِ الشُّهُودِ مِنْ عَدَالَةٍ وَفِسْقٍ أَمْ يَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْحَالِ وَيَقْبَلُ مِنْهَا الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ.
أَجَابَ الْأَوَّلُ فَقَالَ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ وَلَا يُقْبَل إلَّا عُدُولٌ لِأُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: 106] .
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَقُرِئَ فَتَثَبَّتُوا دَالٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَشْهَدَ الْفَاسِقُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْحُسَيْنِ فِي تَكْمِلَتِهِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لِلْحَاكِمِ سَمَاعُ شَهَادَتِهِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرهُمَا قَالَ لِأَنَّهَا إعَانَةٌ عَلَى حَرَامٍ وَالْإِعَانَةُ عَلَى حَرَامٍ حَرَامٌ وَلِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَالْفَاسِقُ غَيْرُ عَدْلٍ وَلَا يُرْضَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى دِينِهِ أَيْ لِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ لِدِينِهِ فَكَيْفَ يَنْظُرُ لِغَيْرِهِ.
فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْفُسَّاقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَلْ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ أَبْيَنُ خَطَأً مِنْ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ تَعَالَى