فنصرِّح بِهِ حينئذٍ، وإلاَّ لم يَجزْ لنا أَن نقُول على الله مَا لم يقم لنا عَلَيْهِ دَلِيل، وَلَو تساوى اثْنَان مثلا فِي الْأَعْمَال لم يتَرَجَّح أَحدهمَا إِلَّا بتوالي عِرْفانه واستمراره لِأَنَّهُ شرف أيُّ شرف، وَبِه يزْدَاد صَلَاح الْأَعْمَال واستقامتها، فللعارف رُتَب فِي الفَضْل والشرف بهَا تتفاضل الْأَحْوَال الناشئة عَنْهَا كَمَا مر أول الْجَواب، فالمحب أفضل من المتَوَكل وَهُوَ من الْخَائِف وَهُوَ من الراجي فَهَذِهِ نبذة من أَوْصَاف العارفين بِاللَّه تَعَالَى. وَمِمَّا يدل على فَضلهمْ على الْفُقَهَاء مَا تكرم الله بِهِ عَلَيْهِم من الكرامات الخارقة للْعَادَة، وَلَا يجْرِي شَيْء من ذَلِك على أَيدي الْفُقَهَاء إِلَّا إنْ سلكوا طَرِيق العارفين، واتصفوا بأوصافهم، (وَمَا سَبَقَكمْ أَبُو بكر بِصَوْم وَلَا صَلَاة وَلَكِن بِشَيْء وقَر فِي صَدْرِه) ، وَمن زعم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا فَضَل غَيره بِالْأَعْمَالِ الشاقَّة فقد أبعد بل فُضِّل بِتَكْلِيم الله إِيَّاه تَارَة على لِسَان جِبْرِيل، وَتارَة من غير وَاسِطَة وَكَذَلِكَ فُضِّل بالعلوم والمعارف وَالْأَحْوَال الَّتِي اخْتصَّ بهَا وَلذَلِك قَالَ: (إِنِّي لأرجو أَن أكون أعلمكُم بِاللَّه وأشدكم لَهُ خشيَة) وَلذَلِك لما تقلَّل بعضُهم قيام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قِيَامه وَصلَاته على صلَاته أنكر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ ذَلِك، ثمَّ ذكر أَن تفضيله عَلَيْهِم إِنَّمَا كَانَ بمعرفته بِاللَّه تَعَالَى فَهَذِهِ جِهَات تفضيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا مشّقة فِيهَا، وَلم لَا وَالله تَعَالَى يَقُول لمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام (إِنِّي اطْطَفَيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي) وَمثل هَذَا الزَّعْم لَا يصدر إِلَّا من قلب مُنَافِق وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْأَنْبِيَاء كلهم عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكثير مِنْهُم كنوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمل وأوذى وصبر أَكثر من نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن ذَلِك الزَّعْم رُبمَا ينبىء أَن النُّبُوَّة مكتسبة وَهُوَ ضلال وكُفْر، بل هِيَ من مواهب مَحض فضْله تَعَالَى خصَّ بهَا أنبياءه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تقصُر الْعُقُول عَن إِدْرَاك أدنى شَيْء مِمَّا أُوتوه من المعارف والأنوار والقرب من الله تَعَالَى، والآيات الْعَظِيمَة الظَّاهِرَة على أَيْديهم تشهد بذلك، وَلِهَذَا لَمَّا شمَّ الْأَوْلِيَاء من هَذِه الرَّائِحَة طرفا حصل لَهُم من العِرفان بقَدَر مَا شمَّ كل طَالب مِنْهُم، وظهرتْ لَهُم كرامات من ذَلِك الْقدر الَّذِي حصل، وَزَاد الْأَنْبِيَاء أَيْضا أَنهم قادة الْخلق إِلَى الله تَعَالَى ومعلموهم كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَيْهِ، فاتبعهم الْعَامَّة بِحكم الْعُلُوم الظَّاهِرَة والخاصة بِحكم الْعُلُوم الْبَاطِنَة، وَحصل بعض تِلْكَ الْأُمُور بخلوص الِاتِّبَاع، وَمن رام زِيَادَة واعتقد قوّة لم يصل إِلَيْهَا، وَلَقَد خرجت أَقْوَال قوم من أهل الطَّرِيق استغْرقوا، فوقعوا فِي الِاعْتِرَاض عَلَيْهِم كالحلاَّج، وَذكر مِنْهُم ابْن الْجَوْزِيّ كثيرين فِي تلبيس إِبْلِيس، وَلَقَد أَشَارَ الْقشيرِي إِلَى أَنه يُقْتدى بِكُل أشْياخ رسَالَته بل بَعضهم وَبينهمْ. وَمن ذَلِك مَا نقل عَن أبي يزِيد: خُضْنا بحراً وقف الْأَنْبِيَاء على ساحله، وَمعنى هَذَا أَن الْأَنْبِيَاء وقفُوا بسواحل بحار الشَّهَوَات والإرادات وَنَحْوهمَا ينقذون أتباعهم من الْغَرق فِي الْبحار فَهُوَ غَايَة فِي مدحهم وَالثنَاء عَلَيْهِم، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء من الِاعْتِرَاض إِلَّا مَا يتَبَادَر من ظَاهره على مَا زَعمه الْمُعْتَرض على الْمُتَكَلِّمين بِهَذِهِ الْكَلِمَة حَيْثُ زعم أَنهم يفضلون الْأَوْلِيَاء على الْأَنْبِيَاء، ومعاذ الله أَن يصدر ذَلِك من أحد مِنْهُم لأَنهم أعرف بِاللَّه وبأحكامه وبالأنبياء ومراتبهم من غَيرهم. وَأجَاب بَعضهم عَن تِلْكَ الْكَلِمَة بِمَا يقْرب مِمَّا قَدمته فَقَالَ: مَعْنَاهَا أَنهم وقفُوا بساحل السَّلامَة ليتبعهم فِيهَا عُمُوم النَّاس لكَونه ظَاهرا مبلغا مَحل السَّلامَة من غير تعمق، وخاض الْخَواص فِي غوامضه وأدركوا مِنْهُ أَشْيَاء من المعارف وَالْأَحْوَال لم يُدْرِكهَا من وقف من أُولَئِكَ الْعَامَّة بالسَّاحل. وَأجَاب بَعضهم: بِأَن المُرَاد أَن الْأَنْبِيَاء خَاضُوا بَحر المعارف وقطعوه وَأَحَاطُوا بِجَمِيعِ أسراره وَلم يبْق عَلَيْهِم مِنْهُ شَيْء، وَأما الْأَوْلِيَاء فَإِنَّهُم خَاضُوا شَيْئا قَلِيلا مِنْهَا بل أَكْثَرهم غرق فِيهِ وتاه، وَلم ينج مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل مِمَّن سبقتْ لَهُم السَّلامَة فِي علْم الله تَعَالَى والبقية امْتُحنوا لعدم ضبط ظواهرهم، ومنْ ثمَّ زاغ كثير من الصُّوفِيَّة الَّذين لم يتأدبوا بآداب الشَّرِيعَة إذْ الْخَيْر كُله فِي اتِّبَاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والاقتداء بهديه، فَمن قيد نَفسه بِأَحْكَام الشَّرِيعَة الظَّاهِرَة وعمَّر بَاطِنه بالخشْية وَنَحْوهَا مِمَّا مر، فقد اندرج فِي سلك الْقَوْم السالمين من اللوم ألحقنا الله بهم ونظمنا فِي سلكهم آمين. 83 وَسُئِلَ نفع الله بِهِ: عَن عدد من سمى مُحَمَّدًا قبل نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَأجَاب بقوله: قَالَ ابْن قُتَيْبَة: من أَعْلَام نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يسم أحد قبله باسمه مُحَمَّد صِيَانة من الله تَعَالَى لهَذَا الِاسْم كَمَا فعل بِيَحْيَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ لم يَجْعَل لَهُ من قبل سميا، وَذَلِكَ أَنه تَعَالَى سَمَّاهُ فِي الْكتب الْمُتَقَدّمَة، وبشَّر بِهِ الْأَنْبِيَاء، فَلَو جعل اسْمه مُشْتَركا فِيهِ لوقعت