لعدم إمكانها بل لعدم التَّكْلِيف بهَا حينئذٍ، لِأَنَّهُ لَا يعرف إِلَّا من الشَّرْع، وَزعم بَعضهم التلازم بَين معرفَة الله وَرُسُله من الْجَانِبَيْنِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْمعرفَة المعتد بهَا شرعا، وَإِلَّا فَوَاضِح أَنه لَا تلازم كَذَلِك كَمَا تقرر. 75 وَسُئِلَ نفع الله بِعُلُومِهِ، بِمَا لَفظه: أنكر بَعضهم الدُّعَاء ب (اللَّهُمَّ كَمَا حسنت خلقي فحسِّن خُلقي) محتجاً بِحَدِيث (فرغ رَبك من ثَلَاث رزقك وأجلك وشَقِيَّ أم سَعيد) فَهَل هُوَ كَذَلِك؟ فَأجَاب بقوله: لَيْسَ الْأَمر كَمَا زعم هَذَا الْمُنكر، وَيلْزمهُ إبِْطَال الدُّعَاء من أَصله، لِأَن كل مَا سيقع لَك قد فرغ مِنْهُ، وَبِذَلِك قَالَ بعض المبتدعة فأبطلوا الدُّعَاء من أَصله، وَقَالُوا لَا فَائِدَة لَهُ لِأَنَّهُ إنْ سبق وُصُول الْمَدْعُو بِهِ للداعي، فالدعاء بوصوله عَبَثْ، وَإِلَّا فَهُوَ عَبث أَيْضا. ورَدَّ عَلَيْهِم أهل السّنة بِأَن الْمَطْلُوب من الدُّعَاء التذلل والخضوع. وَلذَا ورد عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (من لم يسْأَل الله يغْضب عَلَيْهِ) وَفِي بعض الْآثَار أَن الله قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يَا مُوسَى اسألني كل شَيْء حَتَّى ملح عجينك) ، على أَن لَهُ فَائِدَة، وَهِي أَن تِلْكَ المقدرات على قسمَيْنِ: مِنْهَا مَا أُبْرم وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بِمَا فِي أم الْكتاب الَّذِي لَا يقبل تغييراً وَلَا تبديلاً. وَمِنْهَا مَا علق على فعل شَيْء، وَهُوَ الْمعبر عَنهُ باللوح الْمَحْفُوظ الْقَابِل للتغيير والتبديل، وأصل ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرَّعْد: 39] . فَمن ذَلِك حَدِيث: (إِن زِيَارَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمر) بِنَاء على أَن المُرَاد بِالزِّيَادَةِ فِيهِ حَقِيقَتهَا لَا مجازها الَّذِي هُوَ الْبركَة بِأَن يَتَيَسَّر لَهُ فِي الْعُمر الْقصير مَا لَا يَتَيَسَّر لغيره فِي الْعُمر الطَّوِيل وَإِن قَالَ بِهَذَا جمع، وَكَذَلِكَ الدُّعَاء قد يكون الْمَدْعُو بِهِ مُعَلّقا على الدُّعَاء فَكَانَ للدُّعَاء فَائِدَة أيّ فَائِدَة. على أَن الدُّعَاء لَا يخيب أبدا لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِمَا عُلِّق على الدُّعَاء فَوَاضِح وجود الْفَائِدَة فِيهِ وَعَلِيهِ يحمل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يرد الْقَضَاء إِلَّا الدُّعَاء) وَإِن كَانَ بِمَا لم يعلق على ذَلِك ففائدته الثَّوَاب لِأَن الدُّعَاء من الْعِبَادَة بل من أنهاها كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الدُّعَاء مخ الْعِبَادَة) وَأَيْضًا فيبدل الله الدَّاعِي بدل مَا دَعَا بِهِ بِمَا لم يقدر لَهُ بِمَا هُوَ مثل ذَلِك، أَو أفضل مِنْهُ، كَمَا يَلِيق بجوده وَكَرمه وسعة فَضله وحلمه، وَمن ثمَّ أطلق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الاستجابة للدُّعَاء وَلم يقيدها بِشَيْء فَقَالَ عز وَجل: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافِر: 60] وَقَالَ: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [الْبَقَرَة: 186] وَالْفِعْل وَإِن كَانَ فِي حيّز الْإِثْبَات فَلَا عُمُوم لَهُ لكنه فِي مقَام الامتنان للْعُمُوم كَمَا قَالُوا بِهِ فِي النكرَة فِي سِيَاق الامتنان، إذْ الْفِعْل والنكرة المثْبتَة من وادٍ وَاحِد عُمُوما وَعَدَمه، فَتَأمل ذَلِك كُله فَإِنَّهُ ظهر لي بِحَمْد الله وَلَا مزِيد على حسنه وتحقيقه، ثمَّ رَأَيْت بَعضهم أَشَارَ لبَعض ذَلِك فَقَالَ: لَا يُنْكِر الدُّعَاء إِلَّا كَافِر مكذِّب بِالْقُرْآنِ لِأَن الله تَعَالَى تعبد عباده بِهِ فِي غير مَا آيَة، وَوَعدهمْ بالاستجابة على مَا سبق فِي علمه من أحد ثَلَاثَة أَشْيَاء على مَا ورد فِي الحَدِيث استجابة أَو ادخار أَو تَكْفِير عَنهُ. وَقَالَ آخر: مُنكر ذَلِك إِمَّا جَاهِل فينهي عَنهُ أَشد النَّهْي، وإنْ تَمَادى بعد الْعلم فقد كذَّب الْقُرْآن فَهُوَ مُرْتَد وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لَا يرد الْقَضَاء إِلَّا الدُّعَاء) فقد يكون فِي علم الله الْقَضَاء يعلق بذلك الدُّعَاء، وَلَا يكون إِلَّا هُوَ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ) الحَدِيث انْتهى. 76 وَسُئِلَ نفع الله بِعُلُومِهِ: هَل يسوغ لأحد أَن يأنف من الدُّعَاء باللهم اجْعَلنِي مِمَّن ينَال شَفَاعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَأجَاب: لَا يأنف من ذَلِك مُترَّفِعاً عَنهُ إِلَّا كَافِر بِاللَّه وَرَسُوله، غلب دَاء الكِبْر على قلبه حَتَّى أخرجه من دين الْإِسْلَام إِلَى الْكفْر الْحَقِيقِيّ، وَقد صرح أَئِمَّتنَا بِأَنَّهُ لَو قيل لإِنْسَان قُصَّ أظفارك فَقَالَ لَا أفعل رَغْبَة عَن السّنة كفر؛ فَإِذا كَانَ هَذَا حكمهم على هَذَا فَكيف بِمن أنِف أَن يكون من أهل شَفَاعَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَت شَفَاعَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة بالمذنبين إذْ هِيَ على أَنْوَاع سَبْعَة أَو أَكثر كَمَا بينتها فِي الخصائص من شرح الْإِرْشَاد حَتَّى إِن السّبْعين ألفا الَّذين صَحَّ دُخُولهمْ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب لَا يخلون من شَفَاعَته ومدده، وَكَيف يُمكن عَاقِلا أَن يتَوَهَّم أَنه يَنْفَكّ عَن ملاحظته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي يَوْم يحْتَاج إِلَيْهِ فِيهِ الْخلق بأسرهم أنبياؤهم، ورسلهم، وملائكتهم، وَلم يَجْسُر على تِلْكَ الشَّفَاعَة الْعُظْمَى فِيهِ إِلَّا نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وجزاه عَنَّا وَعَن الْمُسلمين خيرا أفضل مَا جزى نَبيا عَن أمته، ورسولاً عَن قومه وأنَا لَنَا شَفَاعَته وَجَعَلنَا من أمته بمنه وَكَرمه. فَإِن قلت: قد أنكر المبتدعة الشَّفَاعَة وَلم تكفر وهم بذلك. قلت: هم لم ينكروها أَنَفَة واستكباراً، بل اعتقاداً زعماً مِنْهُم أنَّ الْأَدِلَّة الَّتِي قَامَت عِنْد عُقُولهمْ الكاذبة الضَّالة أحالتها، وشتان مَا بَين هَؤُلَاءِ ومُنْكِرها أَنَفَة واستكباراً، وَعَجِيب من بعض أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة حَيْثُ لم يستحضر هَذَا