الثَّوْريّ: أخبرهُ رجل كَانَ يرى الْجِنّ أَنه رأى قَاصا يقص فِي مَسْجِد الْخيف فتطلبه فَإِذا هُوَ شَيْطَان، وَجَاءَت آثَار أُخْرَى بِنَحْوِ ذَلِك. وَاعْلَم أَن الْعلمَاء اتَّفقُوا على أَن كافرهم يعذب فِي الْآخِرَة. وَعَن أبي حنيفَة وَأبي الزِّنَاد وَلَيْث بن أبي سليم أَن مؤمنهم لَا ثَوَاب لَهُ إِلَّا النجَاة من النَّار ثمَّ يُقَال لَهُم كونُوا تُرَابا مثل الْبَهَائِم، وَالصَّحِيح الَّذِي قَالَه ابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم رَضِي الله عَنْهُم: أَنهم يثابون على طاعاتهم. وَنقل عَن أبي حنيفَة وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم أَنهم يدْخلُونَ الْجنَّة، وَنَقله ابْن حزم عَن الْجُمْهُور وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} [الْأَنْعَام: 132] فَإِنَّهُ ذكر بعد الْجِنّ وَالْإِنْس. وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْمَلَائِكَة كلهم فِي الْجنَّة وَالشَّيَاطِين كلهم فِي النَّار، وَالَّذين فيهمَا الْإِنْس وَالْجِنّ. وَذكر الْحَارِث المحاسبي: أَنا نراهم فِي الْجنَّة وَلَا يرونا عكس الدُّنْيَا، وَذهب بعض الْحَنَفِيَّة أَنهم لَا يرَوْنَ الله وَإِلَيْهِ يمِيل كَلَام ابْن عبد السَّلَام لِأَنَّهُ صرح بِمَنْع الرُّؤْيَة للْمَلَائكَة وَوَافَقَهُ جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة، لَكِن الْأَرْجَح أَن الْمَلَائِكَة يرونه كَمَا نَص عَلَيْهِ إِمَام أهل السّنة وَالْجَمَاعَة الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ فِي كِتَابه (الْإِبَانَة فِي أصُول الدّيانَة) وَتَابعه الإِمَام الْبَيْهَقِيّ وَغَيره كَابْن الْقيم والحداد والجلال البُلْقِينِيّ. قَالَ الْجلَال، وَكَذَلِكَ الْجِنّ يرونه لعُمُوم الْأَدِلَّة، وَمر فِي الْأَحَادِيث الْمُتَعَلّقَة بِالْمَلَائِكَةِ التَّصْرِيح فِي حَدِيث الْبَيْهَقِيّ وَأبي الشَّيْخ والخطيب وَابْن عَسَاكِر بِأَن الْمَلَائِكَة يرَوْنَ رَبهم، وَلَعَلَّ ابْن عبد السَّلَام لم يطلع عَلَيْهِ وَإِلَّا لم يُخَالِفهُ. وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا وَابْن جرير عَن قَتَادَة قَالَ: قَالَ الْحسن: الْجِنّ لَا يموتون، فَقلت: قَالَ الله تَعَالَى: {أُوْلَائِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الْأَحْقَاف: 18] أَي فَفِي الْآيَة دَلِيل على أَنهم يموتون فَإِن أَرَادَ الْحسن أَنهم لَا يموتونِ مثلنَا بل ينظرُونَ مَعَ إِبْلِيس فَإِذا مَاتَ مَاتُوا مَعَه. قُلْنَا: إِن أَرَادَ ذَلِك فِي بَعضهم كشياطين إِبْلِيس وأعوانه فَهُوَ مُحْتَمل، وَإِن أَرَادَ أَنهم كلهم كَذَلِك نافاه مَا قدمْنَاهُ من الوقائع الْكَثِيرَة أَنهم مَاتُوا وكفنوا ودفنوا. وَأخرج أَبُو الشَّيْخ أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا سُئِلَ أيموت الْجِنّ؟ قَالَ: نعم، غير إِبْلِيس وَابْن شاهين عَنهُ أَن الدَّهْر يمرّ بإبليس فيهرم ثمَّ يعود ابْن ثَلَاثِينَ. وَابْن أبي الدُّنْيَا عَن الرّبيع بن يُونُس قيل لَهُ أَرَأَيْت هَذَا الشَّيْطَان الَّذِي مَعَ الْإِنْسَان لَا يَمُوت؟ قَالَ: وَشَيْطَان وَاحِد هُوَ أَنه ليتبع الرجل الْمُسلم فِي الْفِتْنَة مثل ربيعَة وَمُضر وَابْن أبي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخ عِنْد عبد الله بن الْحَارِث قَالَ: الْجِنّ يموتون وَلَكِن الشَّيْطَان بكر البكرين لَا يَمُوت. قَالَ قَتَادَة: أَبوهُ بكر وَأمه بكر وَهُوَ بكرهما، وَمر فِي خبر هَامة مَا يدل على طول أعمارهم. وَبلغ الْحجَّاج أَن بِأَرْض الصين مَكَانا إِذا أخطأوا فِيهِ الطَّرِيق سمعُوا صَوتا يَقُول: هلموا الطَّرِيق فَبعث نَاسا وَأمرهمْ أَن يتخاطؤها عمدا فَإِذا كلموهم يحملون عَلَيْهِم وَيَنْظُرُونَ مَا هم، فَلَمَّا فعلوا حملُوا عَلَيْهِم فَقَالُوا: إِنَّكُم لن ترونا، قَالُوا: مُنْذُ كم أَنْتُم هَهُنَا؟ قَالُوا: لَا نحصى السنين غير أَن الصين خربَتْ ثَمَان مَرَّات وعمرت ثَمَان مَرَّات وَنحن هَهُنَا. وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: وُكِّل ملك الْمَوْت بِقَبض أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ وَالْمَلَائِكَة، وَملك بالجن وَملك بالشياطين وَملك بالطير والوحوش وَالسِّبَاع والحيات فهم أَرْبَعَة أَمْلَاك. وَأخرج مُسلم (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعَائِشَة: مَعَ كُلِّ إِنْسَان شَيْطان ومَلَك. قالتْ: أَوَ مَعَك يَا رَسُول الله؟ قَالَ: نعم، ولكنَّ الله أعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَم) . وَفِي رِوَايَة لمُسلم أَيْضا (مَا مِنْكُم مِنْ أحدٍ إِلَّا وقَدْ وُكِّلَ بِهِ قرينُه من الْجِنّ وقَرينُه من الْمَلَائِكَة قَالُوا: وَإِيَّاك يَا رَسُول الله؟ قَالَ: وإياي إِلَّا أَن الله عز وَجل أعانني عَلَيْهِ فَأسلم فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَير) وَأسلم مَعْنَاهُ صَار مُسلما، وَهَذَا من خَصَائِصه لخَبر أبي نعيم (فُضِّلَتُ على آدم بخَصْلتين كَانَ شيطاني كَافِرًا فَأَعَانَنِي الله تَعَالَى عَلَيْهِ حَتَّى أسْلَم، وَكن أزواجي عوناً لي وَكَانَ شَيْطَان آدم كَافِرًا وزوجتهُ عوناً على خطيئته) أَي إِنَّهَا صُورَة خَطِيئَة لما هُوَ مُقَرر أَن الْأَنْبِيَاء معصومون قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا من الْكَبَائِر والصغائر عمدا وسهواً، وَجَمِيع مَا رُوِيَ عَنْهُم مِمَّا يُخَالف ذَلِك فيؤول كَمَا بَينه الْمُحَقِّقُونَ فِي محاله خلافًا لمن وهم فِيهِ، كجماعة من الْمُفَسّرين والأخباريين مِمَّن لم يحققوا مَا يَقُولُونَ ويدرون مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَيجب الْإِعْرَاض عَن كلماتهم وترهات قَصَصهم الكاذبة وحكاياتهم. وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا وَأَبُو يعلى وَالْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الشَّيْطَان واضعٌ خُرطومَه على قلب ابْن آدم فإنْ ذَكَر الله خَنَسْ وَإِن نَسِيَّ الْتَقم قَلْبَه أَي نشب فِيهِ وسوسته ويحدثه بالأفكار الرَّديئَة لِأَنَّهُ يجْرِي مِنْهُ مجْرى الدَّم كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} [النَّاس: 5] وَبِه يرد على من أنكر سلوكه فِي بدن الْإِنْسَان