وَالْعشَاء. وروى ابْن أبي دَاوُد بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح: أَن مُجَاهدًا رَحمَه الله كَانَ يخْتم الْقُرْآن فِي رَمَضَان فِيمَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء. وَأما الَّذين ختموا الْقُرْآن فِي رَكْعَة فَلَا يُحصونَ لكثرتهم فَمنهمْ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ، وَتَمِيم الدَّارِيّ، وَسَعِيد بن جُبَير رَضِي الله عَنْهُمَا. وَالْمُخْتَار أَن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص فَمن كَانَ لَا يظْهر لَهُ دَقِيق الْمعَانِي ولطائف المعارف إِلَّا بِالْقدرِ الْيَسِير اقْتصر عَلَيْهِ، وَكَذَا من كَانَ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ أهمّ من الإستكثار، كنشر الْعلم وَمن لَيْسَ كَذَلِك فليكثر مَا أمكنه من غير خُرُوج إِلَى حد الْملَل والهَذْرمَة، وَقد كره جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين الْخَتْم فِي كلّ لَيْلَة وَيَوْم للْخَبَر الصَّحِيح (لَا يفقه من قَرَأَ الْقُرْآن فِي أقل من ثَلَاث) . هَذَا حَاصِل كَلَام النَّوَوِيّ رَحمَه الله، وَهُوَ يرد مَا يُوهِمهُ مَا ذكر من تِلْكَ الْحَوَاشِي من ذمّ الْإِكْثَار والإفراط من الْقِرَاءَة مُطلقًا، وَلَيْسَ كَمَا زعم إِن أَرَادَ ذَلِك، وَإِنَّمَا الذمّ خَاص بِمن يحصل لَهُ ملل أَو عدم تدبر أَو هَذْرمة بِخِلَاف من لَا يحصل لَهُ شَيْء من ذَلِك، وَلَا هُوَ مَشْغُول بالأهم، فَيَنْبَغِي لَهُ أَن يستفرغ وُسْعه ويبذل جهده فِي الْإِكْثَار من قِرَاءَة الْقُرْآن فَإِنَّهُ أفضل من سَائِر الْأَذْكَار مَا عدا الَّتِي لَهَا وَقت أَو حَال مَخْصُوص. وَقد كَانَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ من الِاشْتِغَال بِتِلْكَ الْعُلُوم الباهرة والمعالي الظَّاهِرَة والكمالات المتكاثرة يخْتم فِي غير رَمَضَان فِي كلّ يَوْم وَلَيْلَة ختمة، وَفِي رَمَضَان ختمة فِي اللَّيْل وختمة فِي النَّهَار، وَهَذَا مَعَ مَا كَانَ بِهِ من الْأَمْرَاض الْكَثِيرَة الخطرة حَتَّى كَانَ يَقُول رَضِي الله عَنهُ وأرضاه فِيمَا بَين صَدْرِي وسرتي تِسْعَة أمراض مخوفة كل مِنْهَا لَو انْفَرد كَانَ قَاتلا، فَتَأمل سيرة السّلف وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ وأعْرِض عَن كَلِمَات تصدر مِمَّن لم يختبر أخبارهم وَلَا ذاق معارفهم، وَإِنَّمَا يتَكَلَّم بِحَسب رَأْيه الْقَاصِر وفهمه الفاتر، ظنا مِنْهُ أَن الْعُلُوم النقلية والمعارف وَالْأَحْوَال الذوقية تدْرك بمجرّد الحدس والفكر من غير الِاقْتِدَاء بآثارهم، والاهتداء بمنارهم، حاشا وكلا لَا يظفر بِشَيْء من معارفهم إِلَّا من علم آثَارهم، واقتفى أخبارهم، وامتلأ من السّنة، وعظمت عَلَيْهِ بِوَاسِطَة استغراقه فِي معاليهم الْمِنَّة حقق الله لنا حسن الِاقْتِدَاء بهم والاتباع لآرائهم ومعاليهم إِنَّه جواد كريم رؤوف رَحِيم. وَالْمرَاد من الْمسْح فِي الحَدِيث الثَّانِي حَقِيقَته كَمَا بَينه آخر الحَدِيث وَهُوَ (من مسح رَأس يَتِيم لم يمسحه إِلَّا لله كَانَ لَهُ بِكُل شَعْرَة تمر عَلَيْهَا يَده عشر حَسَنَات وَمن أحسن إِلَى يتيمة أَو يَتِيم عِنْده كنت أَنا وَهُوَ فِي الْجنَّة كهاتين وَقرن بَين أصبعيه) . وَخص الرَّأْس بذلك لِأَن فِي الْمسْح عَلَيْهِ تَعْظِيمًا لصَاحبه وشفقة عَلَيْهِ ومحبة لَهُ وجبراً لخاطره، وَهَذِه كلهَا مَعَ الْيَتِيم تَقْتَضِي هَذَا الثَّوْب الجزيل، وَأما جعل ذَلِك كِنَايَة عَن الْإِحْسَان فَهُوَ غير مُحْتَاج إِلَيْهِ لِأَن ثَوَاب الْإِحْسَان الَّذِي هُوَ أَعلَى وأجلّ قد ذكر بعده وَأَيْنَ الْقرب مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجنَّة حَتَّى يَكُونَا كالأصبعين من إِعْطَاء حَسَنَات بِعَدَد شعر الرَّأْس، فشتان مَا بَينهمَا إِذْ الأول أكمل وَأعظم وعَلى التنزل وَأَنه أُرِيد بذلك الْكِنَايَة الْمَذْكُورَة فَيكون قَوْله (كَانَ لَهُ) إِلَخ كِنَايَة عَن عَظِيم الْجَزَاء، وَأَنه لعظمته لَو وجد فِي الْخَارِج لَكَانَ أَكثر من عدد شعر الرَّأْس بِكَثِير، فَيكون التجوّز وَالْكِنَايَة فِي الطَّرفَيْنِ طرف الْفِعْل وطرف الْجَزَاء عَلَيْهِ وَالْكِنَايَة وَإِن كَانَت أبلغ من الْحَقِيقَة إِلَّا أَن مَحل الْحمل عَلَيْهَا حَيْثُ لم يمْنَع مِنْهَا مَانع، وَقد علمت أَن آخر الحَدِيث يعين الْحمل على الْحَقِيقَة لإفادته أَن مَا بعده يكون تأسيساً، وَهُوَ خير من التَّأْكِيد اللَّازِم للْحَمْل على الْكِنَايَة فَافْهَم ذَلِك وتأمله. ثمَّ رَأَيْت أَحَادِيث صَرِيحَة بِأَن المُرَاد بِالْمَسْحِ حَقِيقَته. مِنْهَا حَدِيث عِنْد الْخَطِيب وَابْن عَسَاكِر وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (امسح رَأس الْيَتِيم هَكَذَا إِلَى مقدم رَأسه من لَهُ أَب هَكَذَا إِلَى مُؤخر رَأسه) . وروى البُخَارِيّ فِي التَّارِيخ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الصَّبِي الَّذِي لَهُ أَب يمسح رَأسه إِلَى خلف، واليتيم يمسح رَأسه إِلَى قُدَّام) . وروى الْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن أردْت أَن يلين قَلْبك فأطعم الْمِسْكِين وامسح رَأس الْيَتِيم) . 44 وَسُئِلَ نفع الله بِعُلُومِهِ: عَن الْمَلَائِكَة صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم هَل خلقُوا دفْعَة وَاحِدَة أَو يخلقون تارات لما فِي بعض الرِّوَايَات: (أَن الله يخلق بِكُل قَطْرَة ملكا) ؟ وَهل يُولد الشَّيَاطِين ويموتون كبني آدم أَو يولدون وَلَا يموتون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ وَهل الْأَفْضَل فِي الذّكر ذكر لَا إِلَه إِلَّا الله أَو ذكر الْجَلالَة فَقَط؟ وَهل الْأَفْضَل فِي الذّكر اللِّسَان مَعَ حُضُور الْقلب أَو الذّكر الْخَفي فَمَا وَجهه وَهل المُرَاد بِهِ مَا هُوَ بِالنَّفسِ أَو مَا يَشْمَلهُ والملفوظ بِاللِّسَانِ من غير إسماع نَفسه؟ وَمَا معنى مَا قيل تفكر سَاعَة خير من عبَادَة سنة هَل المُرَاد بالتفكر ذكر الله أَو ذكر عَظمته أَو فِي اسْتِخْرَاج الْعُلُوم أَو المراقبة