بغايات لَا يعلمهَا إِلَّا خالقه وبارئه المنْعِم عَلَيْهِ بِمَا لم يؤته لغيره، ومِنْ ثُمَّ يَقُول إِبْرَاهِيم عِنْد مَجِيء النَّاس إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْموقف الْعَظِيم للشفاعة الْعُظْمَى فِي فصل الْقَضَاء قائلين لَهُ إِن الله اصطفاك بالخُلَّة إِنَّمَا كنتُ خَلِيلًا من وَرَاء وَرَاء) فأعلمهم أَنه وَإِن كَانَ خَلِيلًا لكنه مُتَأَخّر الرُّتْبَة عَن غير المنحصر فِي نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنَظِير تِلْكَ الْآيَة السَّابِقَة {أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فَالْمُرَاد الْأَمر بالاقتداء فِي التَّوْحِيد وَمَا يَلِيق بِهِ من المقامات الْعلية الَّتِي ترجع إِلَى الْأُصُول لَا إِلَى الْفُرُوع إذْ كَانَ مِنْهُم من لَيْسَ رَسُولا أصلا كيوسف صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وَسلم على قَول، وَالْبَاقُونَ كَانَت فروع شرائعهم مُخْتَلفَة فاستحال حمل الْأَمر على الِاقْتِدَاء بهم على ذَلِك، لَا يُقَال التَّوْحِيد إِنَّمَا ينشأ عَن الْأَدِلَّة القطعية فَكيف يَتَأَتَّى الِاتِّبَاع فِيهِ، لأَنا قد أَشَرنَا إِلَى رد ذَلِك بقولنَا وَمَا يَلِيق بِهِ من المقامات الْعلية الخ. وَمِنْهَا كَيْفيَّة الدَّعْوَى إِلَى التَّوْحِيد وَهُوَ أَن يَدْعُو إِلَيْهِ بطرِيق الرفْق والسهولة وإيراد الْأَدِلَّة الْوَاضِحَة الظَّاهِرَة الْمرة بعد الْمرة على أَنْوَاع مترتبة متمايزة تَأْخُذ بِالْقَلْبِ وتدهش اللب، كَمَا هُوَ الطَّرِيق المألوفة فِي الْقُرْآن، وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام السراج البُلْقِينِيّ فِي (شرح البُخَارِيّ) : وَلم يَجِيء فِي الْأَحَادِيث الَّتِي وقفنا عَلَيْهَا كَيْفيَّة تعبده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الْبعْثَة، لَكِن روى ابْن إِسْحَاق وَغَيره: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج إِلَى حراء فِي كل عَام شهرا من السّنة يتنسَّك فِيهِ) وَكَانَ من نُسك قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة أَن يُطْعم الرجل مَنْ جَاءَهُ من الْمَسَاكِين حَتَّى إِذا انْصَرف من بَيته لم يدْخل بَيته حَتَّى يطوف بِالْكَعْبَةِ، وَحمل بَعضهم التَّعَبُّد على التفكر، قَالَ: وَعِنْدِي أَن هَذَا التَّعَبُّد يشْتَمل على أَنْوَاع: وَهِي الاعتزال عَن النَّاس كَمَا صنع إِبْرَاهِيم صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وَسلم باعتزال قومه والانقطاع إِلَى الله تَعَالَى، (فإنَّ انْتِظَار الْفرج عبَادَة) كَمَا رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وجْهَه مَرْفُوعا، وينضم إِلَى ذَلِك التفكر، وَمن ثمَّ قَالَ بَعضهم: كَانَت عِبَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حراء التفكر.
وَقَول السَّائِل نفع الله بِهِ: وَهل أرسل إِلَى الْخلق كَافَّة الخ. جَوَابه: أَنه كثر استفتاء النَّاس لي عَن ذَلِك وَكثر الْكَلَام مني فِيهِ مَبْسُوطا ومختصراً، وخلاصة الْمُعْتَمد فِي ذَلِك أَن فِي إرْسَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَلَائِكَة قَوْلَيْنِ للْعُلَمَاء، وَالَّذِي رَجحه شيخ الْإِسْلَام التقى السُّبْكِيّ وجماعته من محققي الْمُتَأَخِّرين، وردوا مَا وَقع فِي تَفْسِير الرَّازِيّ مِمَّا قَالَه بِخِلَاف ذَلِك وأطالوا فِي ردِّه، وردَّ مَا وَقع للبيهقي والحليمي مِمَّا يُخَالف ذَلِك أَنه أرسل إِلَيْهِم، وَيدل لَهُ ظَاهر قَوْله تَعَالَى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الْفرْقَان: 1] وهم الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة، وَمن زعم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل إِلَى بعض الْمَلَائِكَة دون بعض، فقد تحكم من غير دَلِيل، كَمَا أنَّ من ادّعى خُرُوج الْمَلَائِكَة كلهم من الْآيَة يعجز عَن دَلِيل يدل على ذَلِك، وَلَا يُنَافِي ذَلِك الْإِنْذَار الَّذِي هُوَ التخويف بِالْعَذَابِ لأَنهم وإنْ كَانُوا معصومين إِلَّا أَن المُرَاد بِالْإِرْسَال تكليفهم بِالْإِيمَان بِهِ، وَالِاعْتِرَاف بسؤْدُدِه ورِفْعته والخضوع لَهُ، وعدُّهم من أَتْبَاعه زِيَادَة فِي شرفه، وكل هَذَا لَا يُنَافِي عصمتهم، ثمَّ ذَلِك الْإِنْذَار إِمَّا وَقع كُله فِي لَيْلَة الْإِسْرَاء، أَو بعضُه فِيهَا، وَبَعضه فِي غَيرهَا، وَلَا يلْزم من الْإِنْذَار والرسالة إِلَيْهِم فِي شَيْء خَاص أَن يكون بالشريعة كلهَا، وَفِي قَول شَاذ: أَن الْمَلَائِكَة من الْجِنّ وَأَنَّهُمْ مؤمنو الْجِنّ السماوية، فَإِذا ركب هَذَا مَعَ القَوْل الَّذِي أجمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وَهُوَ عُمُوم رسَالَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للجن لزم عُمُوم الرسَالَة للْمَلَائكَة كَذَا قيل، وَهَذَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَكفى بِالْأَخْذِ بِظَاهِر الْآيَة دَلِيلا لَا سِيمَا وَخبر مُسلم الَّذِي لَا نزاع فِي صِحَّته صَرِيح فِي ذَلِك، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (وَأرْسلت إِلَى الْخلق كَافَّة) ، فَتَأمل قَوْله: (الْخلق) وَقَوله: (كَافَّة) وَمن ثمَّ أَخذ من هَذَا شيخ الْإِسْلَام الْجمال الْبَارِزِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرسل إِلَى جَمِيع الْمَخْلُوقَات حَتَّى الجمادات، بِأَن ركَّب فِيهَا فَهْم وعَقْل مَخْصُوص حَتَّى عرفَتْه وَآمَنت بِهِ، وَاعْتَرَفت بفضْله وَقد أخبر عَنْهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشَّهَادَةِ للمؤذن وَنَحْوه فِي قَوْله: (فَإِنَّهُ لَا يسمع مدى صَوْتَ المؤذِّن شَجَر وَلَا حجَر وَلَا شَيْء إِلَّا شهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة) وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَىاجَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الْحَشْر: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الْإِسْرَاء: 44] فَإِذا كَانَت هَذِه الجمادات لَهَا هَذِه الإدراكات لم يستنكر مَا قَالَه الْبَارِزِيّ لَا سِيمَا وَحَدِيث مُسلم مُصَرح بِهِ كَمَا علمت. فَإِن قلت: فسر الْجُمْهُور الْعَالمين فِي الْآيَة بالجن وَالْإِنْس. قلت: لَا يلْزم من ذَلِك خُرُوج الْمَلَائِكَة عَن مُطلق الْإِرْسَال بل عَن الْإِرْسَال إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس المتضمن للتكليف بِسَائِر فروع الشَّرِيعَة، وللتكليف بِكُل مَا فِيهِ