وَهَذَا بِعَيْنِه دَلِيل لما يَقُوله الْغَزالِيّ: بِأَن الْمُبَالغَة لَا تسوغ إِلَّا فِي أَمر غلب وَأما إِذا جَاءَهُ مرّة وَقَالَ: إِنِّي جئْتُك مائَة مرّة فَهَذَا لَا مُبَالغَة فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْض كذب فاتضح تَفْصِيل الْغَزالِيّ، وَأَن كَلَام النَّوَوِيّ عقبه دَلِيل لَهُ وَأَن إِطْلَاق الْجلَال كَرَاهَة الْمُبَالغَة لَيْسَ فِي مَحَله فَتَأمل ذَلِك فَإِنَّهُ مُهِمّ. وَأما الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة وَالثَّلَاثُونَ: إِلَى قَوْله: أنسيت، فَهُوَ صَحِيح لكنه قيَّد فِي (الْأَذْكَار) كَرَاهَة ذَلِك حَال الْخطْبَة بِمَا إِذا كَانَ يسمع الْخَطِيب، أَي وَيفهم مَا يَقُول، كَمَا هُوَ ظَاهر، وَبِه صرح أَصْحَابنَا حَيْثُ قَالُوا: يسن لمن لَا يسمع الْخطْبَة الِاشْتِغَال بِالْقِرَاءَةِ وَالذكر، أمَّا بَقِيَّة الْمسَائِل فواضحة إِلَّا الْأَخِيرَة أَعنِي كَرَاهَة الْكَلَام حَال الْأَذَان، حَيْثُ لم يمْنَع استماعه وَلَا الْإِجَابَة الْمَطْلُوبَة مِنْهُ، وَالظَّاهِر أَن مُرَاد الْقَائِل بِالْكَرَاهَةِ خلاف الأولى والأكمل، وَهُوَ الإصغاء إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يحمل على تذكر ظُهُور الْإِسْلَام، وإتمام النِّعْمَة بِهِ علينا، وَأما مَا عدا هَذِه فقد ذكر النَّوَوِيّ من أدلته أَشْيَاء مِنْهَا: مَا روى الشَّيْخَانِ: (لَا يَقُولَن أحدكُم نسَيتُ آيَة كَذَا وَكَذَا بل أُنسى) ورويا أَيْضا (بئس مَا لأَحَدهم أَن يَقُول نسيت آيَة كَيْت وَكَيْت بل أُنسى) . ورويا أَيْضا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع رجلا يقْرَأ فَقَالَ: (رَحمَه الله لقد أذكرني آيَة كنت أسقطتها) وَفِي رِوَايَة صَحِيحَة (أنسيتها) . وروى البُخَارِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تسبوا الْأَمْوَات فَإِنَّهُم قد أفضوا إِلَى مَا قدمُوا) . وَفِي خبر ضَعِيف: (اذْكروا محَاسِن مَوتْاكم وكُفوا عَن مساويهم) قَالَ الْعلمَاء: يحرم سبُّ ميت مُسلم لم يكن مُعْلنا بِفِسْقِهِ، وَأما الْكَافِر وَالْمُسلم الْمُعْلن بِفِسْقِهِ أَو بدعته، فَفِيهِ خلاف للسلف لتعارض النُّصُوص فَهُوَ كالنهي الْمَذْكُور. وسبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنَحْو عَمْرو بن لحي وَإِقْرَاره لمن أثنوا شرا على جَنَازَة مرت بِهِ وَالأَصَح جَوَاز ذكر مساوىء الْكفَّار وَكَذَا نَحْو معلن بِفِسْقِهِ أَو مُبْتَدع إِذا كَانَ فِيهِ مصلحَة للتحذير من شرهم وَإِلَّا لم يجز. ورويا أَيْضا: (مَا عَابَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما قطّ فَإِن اشْتَهاه أَكله وَإِن كَرِهه تَركه) وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (وَإِن لم يشته سكتْ) . وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه (أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ من الطَّعَام طَعَاما أتحرَّج مِنْهُ؟ قَالَ: لَا يَتَخلَّجنَّ أَي بِمُهْملَة أَو مُعْجمَة فلام فجيم فِي صدرك شَيْء) أَي لَا تقع فِي رِيبَة مِنْهُ، وأصل الحلج بِالْمُهْمَلَةِ الْحَرَكَة (ضَارعت بِهِ فِيهِ النَّصَارَى) أَي شابهتهم فِي تَركهم الطَّعَام بِمُجَرَّد التخيل الْفَاسِد، وَيجوز أَن يَقُول لَا أشتهي هَذَا أَو مَا اعْتدت أكله أَو نَحْو ذَلِك لحَاجَة. روى الشَّيْخَانِ: (أَن الضَّب شُوِي وقدّم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعِنْدَ مَا هوى بِيَدِهِ إِلَيْهِ أعلموه فَرفع يَده الشَّرِيفَة، فَقيل أحرام هُوَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِن لم يكن بِأَرْض قومِي فأجدني أعافه) وَالْأَصْل فِي مدح الْآكِل مَا يَأْكُل مِنْهُ خبر مُسلم: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ أَهله الأُدْم؟ فَقَالُوا: مَا عندنَا إِلَّا خلُّ، فَدَعَا بِهِ وَجعل يَأْكُل مِنْهُ وَيَقُول: نعم الأُدْم الْخلّ نِعْم الأُدْم الْخلّ) . وروى ابْن السّني (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا مَعَه غُلَام، فَقَالَ للغلام: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أبي، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تمش أَمَامه وَلَا تستبّ لَهُ أَي لَا تفعل فعلا قبيحاً تتعرض بِهِ لسبِّه إياك وَلَا تجْلِس قَبْله، وَلَا تَدْعُه باسمه) وَذكر بعض السّلف الْمُتَّفق على صَلَاحه أَنه قَالَ: (من العقوق أَن تسمي أَبَاك باسمه، وَأَن تمشي أَمَامه فِي طَرِيق) . وروى البُخَارِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: (حَدِّثُوا النَّاس بِمَا يَعرفون أتُحِبِّون أَن يُكذَّب الله وَرَسُوله) . وروى الشَّيْخَانِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ حِين طول الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة: (أفتَّان أَنْت يَا معَاذ) . وروى مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تُسميَّنّ غلامك يساراً، وَلَا رباحاً، وَلَا نَجحاً، وَلَا أَفْلح، فَإنَّك تَقول أثمّ هُوَ فَلَا يكون فَيَقُول لَا) الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد (النَّهْي عَن تَسْمِيَته بركَة) ومسائل السَّلَام الْمَذْكُورَة مبسوطة فِي كتب الْفِقْه بأدلتها فَلَا نطيل بذكرها. وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
89 - وَسُئِلَ نفع الله بِعُلُومِهِ: عَن شخص اعْتقد أَنه رأى ربه تَعَالَى فِي الدُّنْيَا؛ وَأَن الرُّؤْيَا وَقعت مِنْهُ فِي الدُّنْيَا بِالْعينِ فِي الْيَقَظَة فَهَل يجوز ذَلِك؟ كَمَا قَالَ جمَاعَة. إِن الْمُخْتَار جَوَاز رُؤْيَته فِي الدُّنْيَا فِي الْيَقَظَة بِالْعينِ وَفِي الْمَنَام بِالْقَلْبِ، وإنْ لم يَقع ذَلِك على الْمُخْتَار؛ فَذَلِك يَقْتَضِي حلا لغير نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا فِيهِ. أَي فِي الْوُقُوع لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من الْكَلَام: أَي الِاخْتِلَاف الْكثير الشهير، أَو يحرم ذَلِك عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا لم يَقع إِلَّا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا فِيهِ فَكيف يَقع لغيره، أَو يكْفُر باعتقاده ذَلِك كَمَا قَالَه الكواشي فِي تَفْسِير سُورَة النَّجْم حَيْثُ قَالَ بعد أَن ذكر الْخلاف فِي أَنه وَقع ذَلِك أَي الرُّؤْيَة بِالْعينِ فِي الْيَقَظَة: فمعْتقِد رُؤْيَته تَعَالَى هُنَا بِالْعينِ غير مُسلم، فَهَل كَلَامه فِي ذَلِك مُقَرر أَولا؟ فَأجَاب بقوله: الْكَلَام هُنَا فِي مقامين. الأول: فِي إمكانها