قال صلى الله عليه وسلم: «أبشروا، فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبدا» (?).
إن الفتن التي تمر بنا في هذا العصر كقطع الليل المظلم، تجعل الحليم حيرانا وليس أمامنا من عاصم إلا الله وحبله المتين فلنسارع بالتعلق به.
قال ابن مسعود: إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله، هذا الطريق، هذا الطريق، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن (?).
ومن شأن القرآن كذلك أن يُبعد عن أهله أي بوادر لليأس والإحباط مهما اشتد الظلام وادلهمت الخطوب، فهو يثبت القلوب على الحق ويربط عليها، كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].
ما من يوم تُشرق شمسه إلا وللحياة فيه جديد، وليس من عادتها أن تظل صافية لإنسان ما أبد الدهر، ومع كثرة متغيراتها تزداد الحاجة إلى وجود دليل ناصح، أمين، يُعرفنا كيف نواجه تلك المستجدات .. وهنا يأتي دور القرآن، فما من مشكلة يتعرض لها الفرد إلا وفي القرآن حلها، كما قال ابن عباس: لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في القرآن ..
فعند المصائب والشدائد تجده يربت على كتف صاحبه، ويدعوه إلى الصبر والاحتساب، ويحكي له نماذج لأناس أصابتهم مصائب أشد من مصيبته، فصبروا على ما أصابهم حتى جاءهم الفرج من حيث لم يحتسبوا.
والقرآن يوجه صاحبه نحو المعالي فيهون عليه، ويصغير في عينيه ما يتهافت عليه الناس، فيجعله دائما في حالة من الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، والشكر على العطاء.
ثامنًا: من دواعي العودة كذلك: الوصول إلى صداقة القرآن وشفاعته:
كلما اقترب المسلم من القرآن وتوثقت علاقته به، فسيجد أنه أصبحت له علاقة خاصة بسور القرآن، فهو ينتظر الوصول لسورة الأنعام لتزيده حُبًّا لله، ويتلهف لقراءة الأنفال ليزداد شعوره بالعزة، ويشتاق لسورة يوسف لتكون له نعم السلوى.
يقول الأستاذ سيد قطب: هكذا عُدت أتصور سور القرآن، وهكذا عدت أحُسها، وهكذا عدت أتعامل معها بعد طول الصحبة، وطول الألفة، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته وملامحه وسماته .. وأنا أجد في سور القرآن تبعا لهذا وفرة بسبب تنوع النماذج، وأنسا بسبب التعامل الشخصي الوثيق، ومتاعا بسبب اختلاف الملامح والطباع والاتجاهات والمطالع ..
إنها أصدقاء .. كلها صديق .. وكلها أليف .. وكلها حبيب .. وكلها ممتع .. وكلها يجد القلب عنده ألوانا من الاهتمامات طريفة، وألوانا من المتاع جديدة، وألوانا من الإيقاعات، وألوانا من المؤثرات تجعل له مذاقا خاصا وجوا منفردا ..
ومصاحبة السورة من أولها إلى آخرها رحلة ... رحلة في عوالم ومشاهد، ورؤى وحقائق وتقريرات وموحيات، وغوص في أعماق النفوس واستجلاء لمشاهد الوجود .. لكنها كذلك رحلة متميزة المعالم في كل سورة ومع كل سورة (?).
وصداقة القرآن للعبد بعد طول الصحبة لا تقتصر على حياته الدنيوية فقط، بل تتعداها إلى حياة البرزخ فيكون القرآن أنيسا له في قبره أيضا.