جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: علمني كلمات جوامع نوافع، فقال: نعم، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتزول مع القرآن أينما زال، ومن جاءك بصدق من صغير أو كبير وإن كان بعيدا بغيضا فاقبله منه، ومن جاءك بكذب وإن كان حبيبا قريبا فاردده عليه (?).

وقال حذيفة بن اليمان لعامر بن مطر: كيف أنت إذا أخذ الناس طريقا واحدا وأخذ القرآن طريقا، مع أيهما تكون؟ قال: أكون مع القرآن وأموت معه وأحيا معه، قال: فأنت إذا أنت، فأنت إذا أنت (?).

فالمطلوب مع القرآن أن يكون أمامنا، نسير وراءه كقائد وسائق يسوقنا إلى الله عزوجل وجنته. قال عبد الله بن مسعود: القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار (?).

ولقد أوضح الشعبي معنى ترك القرآن خلف الظهر، فقال في قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]: أما إنه كان بين أيديهم ولكن نبذوا العمل به، فهذا يُبين لك أن من نبذ شيئا فقد تركه وراء ظهره (?).

حالنا مع القرآن

أتعلم أخي القارئ أن القرآن الذي بين أيدينا هو نفس القرآن الذي كان مع الصحابة رضوان الله عليهم وصنع منهم هذا الجيل الفريد؟

أتعلم أن الأدوات التي كانت معنا هي التي كانت معهم، من عينين ولسان وشفتين وعقل وقلب وجوارح.

فما الذي حدث؟

لماذا لم يعد القرآن يُنتج مثل هذه النماذج؟ مع أنه قد تيسر وجوده بين المسلمين أكثر من أي وقت مضى؟!

فما من بيت من بيوت المسلمين إلا وفيه مصحف أو أكثر، وما عليك إلا أن تدير مؤشر المذياع لتستمع إلى آيات القرآن تتلى في إذاعة من الإذاعات. لقد أصبح القرآن في عصرنا ميسرا للقراءة أكثر من أي وقت مضى، وانتشرت الكتاتيب، وازداد حُفاظه من الرجال والنساء في كل مكان، فلماذا لا يُحيينا كما أحيا جيل الصحابة، ولماذا لا يرفعنا كما رفعهم؟

هل فقد مفعوله؟ أم ماذا حدث؟

يُجيب عن هذه التساؤلات الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - فيقول:

إن المسلمين بعد القرون الأولى، انصرف اهتمامهم بكتابهم إلى ناحية التلاوة، وضبط مخارج الحروف، وإتقان الغُنن والمدود وما إلى ذلك مما يتصل بلفظ القرآن والحفاظ على تواتره كما جاءنا أداء وأحكاما - أقصد أحكام التلاوة - لكنهم بالنسبة لتعاملهم مع كتابهم صنعوا شيئا ربما لم تصنعه الأمم الأخرى، فإن كلمة (قرأت) عندما يسمعها الإنسان العادي أو يقولها تعني: أن رسالة جاءته أو كتابا وقع بين يديه فنظر فيه، وفهم المقصود منه ..

أما الأمة الإسلامية، فلا أدري بأي طريقة فصلت بين التلاوة وبين التدبر، فأصبح المسلم اليوم يقرأ القرآن لمجرد البركة كما يقولون، وكأن ترديد الألفاظ دون حس بمعانيها، ووعي لمغازيها، يُفيد أو هو المقصود.

وعندما أحاول أن أتبين الموقف من هذا التصرف أجد أنه موقف مرفوض من الناحية الشرعية، وذلك أن قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، يعني الوعي والإدراك والتذكر والتدبر .. فأين التدبر؟ وأين التذكر؟ مع تلك التلاوة السطحية التي ليس فيها أي إحساس بالمعنى، أو إدراك للمقصد، أو غوص فيما وراء المعنى القريب لاستنتاج ما هو مطلوب لأمتنا من مقومات نفسية واجتماعية تستعيد بها الدور المفقود في الشهادة على الإنسانية وقيادتها إلى الخير (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015