ومع شدة انشغالهم بالقرآن واعتنائهم به إلا نهم كانوا يتفاوتون في مدة ختمه.

أخرج ابن أبي داود عن مكحول قال: كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرءون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك (?).

ولقد سأل رجل زيد بن ثابت: كيف ترى قراءة القرآن في سبع؟ فقال زيد: حسن، ولئن أقرأه في نصف شهر أو عشرين أحب إليّ، وسلني لم ذاك؟ فقال: إني أسألك؟ قال زيد: لكي اتدبره وأقف عليه (?).

فالعبرة عندهم ليست بكم القراءة بقدر ما كانت بالمعاني المستخرجة منها والتي تحرك القلوب وتدفع للعمل.

لذلك كان من وصايا ابن مسعود: لا تهذوا القرآن هذّ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم من السورة آخرها (?).

القراءة المتأنية أدعى لحسن الفهم:

سئل الإمام مجاهد – تلميذ ابن عباس – عن رجل قرأ البقرة وآل عمران، ورجل قرأ البقرة، قيامهما واحد، وركوعهما واحد، وسجودهما واحد، وسجودهما واحد، وجلوسهما واحد، أيهما أفضل؟ فقال: الذي قرأ البقرة، ثم قرأ قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (?) [الإسراء: 106].

ولقد قيل للسيدة عائشة رضي الله عنها: إن أناسا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثا، فقالت: قرءوا ولم يقرءوا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم ليلة التمام فيقرأ سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة النساء، لا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله وتعالى ورغب، ولا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ (?).

وفي صحيح مسلم عن أبي وائل أن رجلا يقال له نهيك بن سنان جاء إلى عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن: كيف تقرأ هذا الحرف، ألفا تجده أم ياء «من ماء غير آسن» أو «من ماء غير ياسين» قال: فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة. فقال عبد الله: هذَّا كهذِّ الشعر؟ إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب، فرسخ فيه، فنفع ..

ويُعلق النووي على قول ابن مسعود: معناه إن قوما ليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل إلى قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب، بل المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب (?).

فلا بديل عن التدبر ..

فإن قلت فما هو الحد الأدنى للسرعة في القراءة؟!

يوضح ذلك الحسن بن علي بقوله: اقرأ القرآن ما نهاك فإذا لم ينهك فلست تقرأه (?).

وعندما قال أبو جمرة لابن عباس: إني سريع القراءة، إني لأقرأ القرآن في ليلة .. قال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أحب إلي .. إن كنت فاعلا فاقرأ قراءة تسمعها أذنك ويوعها قلبك (?).

ومن هديهم في تلاوتهم للقرآن: ترديد الآية التي تؤثر فيهم.

عن عباد بن حمزة قال: دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو، فطال عليّ ذلك فذهبت إلى السوق، فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو (?).

وظل عبد الله بن مسعود يردد قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (?) [طه: 114]، حتى أصبح.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015