أخرج ابن المبارك في الزهد أن عمر بن الخطاب أخذ أربع مائة دينار فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تله ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر بن الخطاب فأخبره ووجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل ثم تله في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب به إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، تعالي يا جارية! اذهبي إلى فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: نحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرفة إلا ديناران، فدحا بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك عمر وقال: إنهم أخوة بعضهم من بعض (?).
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يستشعرون جيدا أن استمرار عزة الإسلام ورفعته مرهون باستمساك أبناءه بالقرآن، فهو حبل الله الذي يجمع ولا يفرق، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وكانوا يدركون أن الاستمساك بالقرآن يعني اتخاذه دليلا ومصاحبا وهاديا لكل ما يحبه الله عز وجل، فكانوا شديدي الحرص على استمرار تعامل الأجيال التي تليهم مع القرآن بنفس الطريقة التي تعاملوا هم بها معه، وكانوا كذلك شديدي الخوف من أن يتحول القرآن من كتاب هداية يصنع النفوس الكبار ويحرر القلوب من أسر الدنيا، وينقذ البشرية من الضلال إلى مجرد تراتيل ترددها الألسن ولا تتجاوز الحناجر.
وتجلى هذا جيدا في توجيهاتهم ووصاياهم لمن بعدهم.
فمن هذه الوصايا:
إن التفرغ للقرآن وعدم الانشغال بغيره من شأنه أن يجعل تصورات الشخص وخواطره ومنطلقات سلوكه تنطلق من معاني القرآن، لذلك كان الصحابة شديدي الحرص على تبليغ هذه الوصية لمن بعدهم، وبخاصة بعد انتشار الفتوحات، ودخول الكثيرين الإسلام ممن لم يعايشوا أجواء القرآن.
تأمل معي هذه الوصية لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - والتي يقول فيها: جردوا القرآن ليربوا فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم، فإن الشيطان يفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة.
قال شعبة - أحد رواة هذا الأثر-: فحدثت به أبا التياح وكان عربيا فقال: نعم، أُمروا أن يجردوا القرآن. قلت له: ما جردوا القرآن؟ قال: لا يخلطون به غيره (?).
وعن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: أصبت أنا وعلقمة صحيفة، فانطلقنا إلى ابن مسعود بها، وقد زالت الشمس أو كادت تزول، فجلسنا بالباب ثم قال ابن مسعود للجارية: انظري من بالباب فقالت: علقمة والأسود، فقال: ائذني لهما، قال: فدخلنا، فقال: كأنكما قد أطلتما الجلوس؟ قلنا: أجل. قال ما منعكما أن تستأذنا؟ قالا: خشينا أن تكون نائما. فقال: ما أحب أن تظنا بي هذا، إن هذه الساعة كنا نقيسها بصلاة الليل. فقلنا: هذه صحيفة فيها حديث حسن، فقال: هاتها، يا خادم هاتي الطست فاسكبي فيها الماء. قال: فجعل يمحوها بيده ويقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، فقلنا: انظر فيها، فإن فيها حديثا عجبا، فجعل يمحوها ويقول: إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره.
قال أبو عبيد في تعليقه على هذا الخبر: أرى أن هذه الصحيفة أُخذت من بعض أهل الكتاب، فلهذا كرهها عبد الله (?).
جردوا القرآن: