كان صلى الله عليه وسلم حريصا على وحدة التلقي وصفاء المنبع الذي يستقي منه الصحابة - رضوان الله عليهم - فكان دائم التوجيه لهم بعدم الانشغال بغير القرآن، جاءه عمر بن الخطاب يوما بكتاب أصابه من بعض الكتب، فقال: يا رسول الله: إني أصبت كتابا حسنا من بعض أهل الكتاب، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أمتهوكون فيها يابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه و سلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» (?).
يقول سيد قطب رحمه الله في تعليقه على هذه الحادثة:
«إذن فقد كان هناك قصد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل في فترة التكوين الأولى على كتاب الله وحده، لتخلص نفوسهم له وحده، ويستقيم عودهم على منهجه وحده، ومن ثم غضب أن رأى عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - يستقي من نبع آخر.
كان صلى الله عليه وسلم يريد صنع جيل خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص الشعور، خالص التكوين من أي مؤثر آخر غير المنهج الإلهي الذي يتضمنه القرآن (?).
استقبل الصحابة القرآن استقبالا صحيحا، وفهموا المقصد الأساسي من نزوله فانصبغت حياتهم به، وقطف الإسلام أطيب الثمار بظهور هذا الجيل الفريد الذي لم تشهده البشرية - وبهذا الكم - مثله.
إنه لأمر عجيب يشهد بقدرات هذا الكتاب على إحداث ذلك التغيير الجذري في النفوس .. أمة تعيش في الصحراء .. حفاة عراة .. فقراء، بلا مقومات تذكر، لا توضع في حسابات القوى الكبرى آنذاك من فرس وروم، وإن شئت فقل إنها كانت تابعة .. فيأتي القرآن ليغير هذه الأمة ويعيد صياغة شخصيتها، وكيانها من جديد، ويرفع هامات أبنائها إلى السماء، ويربطها بالله ويُشعرها بالعزة والرفعة بإيمانها ودينها الذي ارتضاه الله لها.
يأتي القرآن ليصنع أمة جديدة لم يعهدها العالم من قبل، .. تحطم الامبراطوريات وتقلب الموازين، وتصبح في سنوات معدودات صاحبة القوة الأولى في الأرض بين الأمم .. الكل يخشاها .. الكل يتودد إليها .. لا تُشترى بالمال ولا بالجاه .. أمة عرفت مصدر عزتها فتمسكت به فأحسن قيادتها، وأسعد بها الدنيا ردحا من الزمن ..
انظر مثلا إلى واحد من هؤلاء وهو يُجيب على رستم قائد الفرس عندما سأله: ما الذي جاء بكم؟ قال له: الله جاء بنا .. وهو الذي بعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأهله، ومن أبى إلا الحرب قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر.
إنها العزة التي جعلت عمر بن الخطاب يقول لأبي عبيدة بن الجراح حين طلب منه أن يغير ثيابه المرقعة لتسلم بيت المقدس ومقابلة عظماء النصارى: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
عندما أتجه الصحابة بكليتهم إلى القرآن أنشأ عندهم وحدة التصور، مما أثمر إلى حد كبير وحدة السلوك، ولم لا والكتاب الذي تلقوا منه أفكارهم وتصوراتهم واحد.