إذن لكي يصبح القلب في عبودية تامة ودائمة لله عز وجل يجب أن تكون مشاعره متوجهة إلى الله عز وجل وبصورة مستمرة مما يجعل استثارة أي منها تتم بأدنى مؤثر، فيؤدي ذلك إلى توجه القلب إلى العبادة المناسبة للمشاعر المُثارة وبصوة تلقائية، فإن أصابته سرَّاء شكر وإن أصابته ضراء صبر، وإن عزم على أمر توكل على الله، وكلما توجه القلب إلى العبودية المناسبة فإنه بذلك يسير إلى الله ويقترب منه.
ولكن كيف يمكننا أن نصل إلى هذه الحالة القلبية من خلال القرآن؟
الطريق الذي يسلكه القرآن للوصول بصاحبه إلى هذه الحالة يتلخص في قدرة القرآن على إنشاء الأحوال المختلفة التي يعيشها القلب وذلك بتنوع مؤثراته عليه فتارة يُخوفه بذكر يوم الحساب وما فيه من أهوال، ويذكره النار وما تحتويه من ألوان العذاب، وبعاقبة المكذبين من الأمم السابقة ..
وتارة يُرغبه بذكر الجنة وما فيها من ألوان النعيم، وتارة يستثير فيه مشاعر الحب بكثرة ذكر النعم، وتارة يستثير مشاعر الاحتياج إلى الله بعرض جوانب الفقر إليه ..
هذه الأحوال التي ينشئها القرآن في القلب تتحول بمرور الأيام إلى مقامات ثابتة يعيشها القلب، وذلك من خلال كثرة استثارته للمشاعر المختلفة ودوام الضغط عليها حتى تتمكن الأحوال الطارئة من القلب فتصبح مقامات ثابتة.
ولكي يصل المرء إلى هذه الحالة لابد له من كثرة قراءة القرآن ودوام التفكر في الآيات .. لابد أن تأخذ آيات القرآن وقتها الكافي مع القلب لتستقر الأحوال التي تثمرها فيه، فتنتج هذه الأحوال عبادات قلبية .. هذه العبادات ستدفع صاحبها للقيام بالأعمال الصالحة التي تعبر عنها. وهذا ما كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم - كما سيمر علينا بمشيئة الله في الفصل القادم - كانوا يأخذون عشر آيات فقط من النبي صلى الله عليه وسلم فيعيشون معها بكل جوارحهم فتحدث لهم أبلغ الأثر من تغيير في عقولهم، وتعبيد قلوبهم لله عز وجل، وتدفعهم لسرعة الاستجابة والمبادرة للقيام بأي عمل صالح يُعبر عن عبوديتهم التامة لربهم .. ثم ينتقلون بعد ذلك إلى غيرها.
تأمل معي حالهم وقد امتلأت قلوبهم حبًّا لله عز وجل نتيجة لتفاعلهم مع آيات القرآن التي لا تخلو من بيان سور كرمه سبحانه على عباده وإنعامه عليهم ... تأمل معي وقد هاج عليهم هذا الحب والتعات به قلوبهم، فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بذلك ويقولون له: يا رسول الله، والله إنا لنحب ربنا، فأنزل عز وجل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
من أجل ذلك كانوا يظلون فترة طويلة في حفظ السورة من القرآن، فلقد أتم عمر بن الخطاب حفظ سورة البقرة في اثني عشر عاما، أما ابنه عبد الله فقد أتمها في ثماني سنين.
إن حفظ سورة البقرة لا يستغرق عدة أسابيع أو شهور إن كان الأمر يقتصر على حفظ ألفاظها فقط، أما إذا كان الأمر مرتبطا بتأثير القرآن على العقل ليعيد تشكيله، وعلى القلب ليعبده لله عز وجل، فالأمر بلا شك سيختلف، وسيحتاج إلى سنين كما فعل عمر ابن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما.
المحور الثالث
القرآن والنفس
بمداومة قراءة القرآن بتدبر وتفهم تبدأ خريطة الإسلام تُرسم في الذهن، ويُعاد تشكيل العقل من جديد، ويُبنى فيه اليقين الصحيح.
ومع التغيير الذي يحدث في العقل فإن القرآن كذلك يؤثر في المشاعر ويوجهها تجاه المولى عز وجل مما يزيد الإيمان، وينصلح القلب فتنصلح الجوارح تبعا له.