والرضا هو الحال الذي ينبغي أن يستقبل به القلب أقدار الله عز وجل وبخاصة المؤلمة منها. وعلى قدر القيام بهذه الأعمال تكون عبوديته لربه، ومن ثَم قربه منه.
فإن قال قائل ولكن كيف يمكننا القيام بهذه الأعمال القلبية، وما هو دور القرآن في ذلك؟
قبل الإجابة بهذه عن هذا السؤال لابد أن يتطرق الحديث حول منشأ هذه العبادات والفرق بين الحال والمقام.
الحال والمقام:
عندما تبلغ مسامع شخص ما أخبار ساره فإنه يعيش في حالة من الفرح والسرور، وعكس ذلك يكون عند تلقِّيه أخبارا محزنة، هذه الحالة تزول بعد فترة من تعرضه للمؤثرات التي أثرت فيه، فإذا ما كان المؤثر شديدا أو استمر في تعرضه له لفترة طويلة، فإن هذه الحالة الشعورية التي انتابته ستلازمه لفترة أطول من الزمن، وهذا ما يُسمَّى بالمقام، أي أنه أقام في هذه الحالة واستمر عليها.
فالحال إذن هو الحالة الشعورية الطارئة التي تنتاب الشخص عند تعرضه لمؤثر ما، ولا يصبح هذا الحال مقاما إلا إذا عاش فيه ولازمه وأقام فيه، فقد تتلقى امرأة خبرا بوفاة زوجها الذي هو في نفس الوقت شقيقا لواحد من الناس وابن عم لواحد آخر .. بلا شك سيعيش الجميع في حالة من الحزن عند وقت تلقيهم النبأ، هذه الحالة ستزول عند ابن العم في وقت أقصر منه عند الأخ، أما الزوجة ففي الغالب أن حالة الحزن ستلازمها وقتا طويلا فتظل في مقام الحزن.
هذا من ناحية المشاعر، أما من ناحية السلوك فعلى قدر استثارة المشاعر تكون القوة الدافعة للعمل، فعلى قدر قوة المؤثر يكون العمل المُصاحب، وعلى قدر الاستمرار أو المقام في الحالة الشعورية المستثارة يكون الاستمرار في العمل المصاحب.
فالبكاء مثلا عمل مصاحب لمشاعر الحزن عندما تتمكن من القلب وسرعة استدعائه مرتبطة ببقاء هذه المشاعر في حالة من التوهُّج.
فإذا ما اتضح هذا الأمر فما علينا إلا أن نُسقطه على عبادات القلوب.
- فالشكر عبادة قلبية تنتج من استثارة مشاعر الحب لله عز وجل، هذه الحالة الشعورية قد تكون طارئة فيعيش القلب شاكرا لله عز وجل في لحظات معدودة، وقد تستمر الحالة فترة طويلة فيستمر القلب في مقام الشكر مما يدفعه إلى القيام بأعمال تُعبِّر عن هذه العبادة القلبية كسجود الشكر، وقيام الليل، وكثرة حمد الله عز وجل باللسان وذكر نعمه والتحدث عنها.
- والشعور بالاحتياج إلى الله عز وجل يستدعي عبودية الاستعانة به سبحانه وتعالى، وعلى قدر قوة الحالة الشعورية يكون العمل المُصاحب والذي يمثله الدعاء إلى الله عز وجل بإلحاح وصدق. واستمرار هذه العبودية وهذا العمل مرهون ببقاء تلك الحالة الشعورية.
- وعندما تهيج مشاعر الحياء من الله عز وجل يعيش القلب في عبودية المراقبة والإخلاص والتي قد تصل إلى الإحسان المذكور في حديث جبريل المشهور أي أن تعبد الله كأنك تراه.
- وعندما ينتاب الشخص شعور بالعجز والانكسار لله عز وجل يعيش قلبه في عبودية الاستسلام والخضوع لله عز وجل.
- وعندما تتأجج مشاعر الخوف من الله عز وجل في القلب فإنه يعيش عبودية التقوى له سبحانه.
أما عبودية الإنابة والتوبة فيتجه إليها القلب عندما تستثار مشاعر الرغبة والطمع فيما عند الله عز وجل.
هذه الأحوال المختلفة التي قد تطرأ على مشاعر العبد تجعل قلبه يتقلب في ألوان من العبودية لله عز وجل بقدر ما تمكث هذه الأحوال، وما من مؤمن بالله عز وجل إلا وعاش فيها ولو للحظات، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى سابق عهده من الغفلة بعد ذهاب المؤثر القوي.