عندما نتعلم أحكام تلاوة القرآن فنحن نتعلمها بالعقل المُدرِك، وبالمداومة على تطبيقها ترسخ هذه المعلومات في اللاشعور، فيُطبِّق المرء الأحكام دون تفكير فيها، وقد ينسى القارئ نَص الحكم التجويدي ومع ذلك يستمر في تطبيقه بصورة صحيحة.
والذي يتعلم قيادة السيارة فإنه يتعلمها بالشعور، ثم بالمداومة والممارسة ترسخ المعلومات في اللاشعور، مما يجعله يقود سيارته دون تفكير، وقل مثل هذا على الذي يتعلم الكتابة على الكمبيوتر والذي لا يستطيع في البداية كتابة حرف دون النظر إلى مكانه في لوحة الحروف، وشيئًا فشيئًا يستطيع الكتابة وهو ينظر إلى الآخرين.
إذن فتحول المعلومة من الشعور إلى اللاشعور وثباتها فيه يحتاج إلى تكرار التفكير فيها واسترجاعها بين الحين والآخر وإلَّا تلاشى وجودها شيئا فشيئا .. فكم من مهارات وأعمال وأناشيد وجُمَل مأثورة تعلمناها في الصِغر ودخلت اللاشعور، ثم تلاشت منه أو كادت بسبب إهمالها وعدم استرجاعها كل فترة.
من هنا تأتي أهمية الممارسة العملية المتكررة المعبرة عن الأفكار التي نُريد ترسيخها في اللاشعور، ولعلنا نلمح هذا المعنى من تأكيد رسولنا صلى الله عليه وسلم على أهمية المداومة على العمل - وإن قَلَّ - ليظل مدلوله راسخا في اللاشعور.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ» (?).
مما سبق يتبين لنا أن من أسباب عدم مطابقة الفعل للقول هو ما ترسب لدى الإنسان في عقله الباطن من أفكار ومعتقدات، والتي من الجائز أن يقتنع العقل المُدرك بعكسها في لحظة من اللحظات، لكنه عند التطبيق يصدر منه سلوك مُعبر عن يقينه ومعتقداته الراسخة لديه.
فعلى سبيل المثال: لو ناقشت إنسانا ما في قضية الرزق وأنه بيد الله عز وجل وقد ضَمِنه لنا، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فستجد منه اقتناعا تاما بذلك، ولكن عند التطبيق في معترك الحياة نجد أن الأمر يختلف، حيث اللهفة والحرص على المال وكثرة التفكير في المستقبل والخوف من الفقر ...
إذن فالخطوة الأولى في تغيير السلوك تبدأ بتغيير ما ترسب لدينا من أفكار ومعتقدات خاطئة واستبدالها بأفكار ومعتقدات صحيحة.
هذا التغيير - كما مرَّ علينا - يستلزم ثلاثة أمور:
أولًا: اقتناع العقل المُدرِك بالأفكار الجديدة.
ثانيًا: تكرار مرور تلك الأفكار على العقل.
ثالثًا: ممارسة مقتضيات تلك الأفكار.
فالقرآن يُعيد تشكيل العقل من جديد، ويُصوِّب كل فكرة خاطئة لديه، ويبني فيه اليقين الصحيح لكل الأفكار والمعتقدات.
ولكن كيف يتم ذلك؟
المتأمل في كتاب الله سيجد العديد من الوسائل التي يستخدمها في ترسيخ المفاهيم الصحيحة في اللاشعور، ومن أهم هذه الوسائل:
أولا: الاقتناع:
فالاقتناع بالفكرة هو الخطوة الأولى في طريق التغيير، حيث يسمح العقل المُدرِك بمرورها بعد ذلك إلى اللاشعور ليصبح السلوك المعبر عنها يصدر بطريقة تلقائية.