البعض منَّا يخاف من الظلام، فإذا ناقشته وجدته مقتنعا بعدم وجود ما يُبرر خوفه، لكنه مع ذلك يستمر كما هو، والناس يتحدثون عن العدول والمساواة ولكن عند التطبيق يظهرون بالقيم العشائرية ...
فما السبب في ذلك؟
السبب الرئيسي لهذا التناقض بين القول والفعل أن العقل يستقبل المعلومات بجزئه المُدرك الواعي والذي يُسميه العلماء بالشعور .. هذه المعلومات لن تستطيع ان تكون دافعا مستمرا للأعمال إلا إذا أصبحت علما راسخا عند الإنسان، وانتقلت من منطقة الوعي والإدراك والشعور إلى منطقة اللاشعور، أو العقل الباطن، أو الأخفى على حد تعبير القرآن.
قال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].
فالسر - كما يقول ابن عباس رضي الله عنه -: ما أسرَّ ابن آدم في نفسه، وأخفى: ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله (?).
فاللا شعور، أو الأخفى هو منطقة العلم الراسخ اليقيني عند الإنسان، ومن خلاله تنطلق الأفعال بصورة تلقائية.
ولقد ضرب القرآن مثالا لأناس اعتقدوا أنهم مصلحون، ولكن سلوكهم يدل على عكس ذلك .. لماذا؟
لأنهم يُفسدون بطريقة تلقائية من اللا شعور.
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].
والأمر الجدير بالانتباه كما يقول د. ميسرة طاهر: أن حوالي 60% من سلوكنا اليومي ومن أفعالنا وأقوالنا مصدرها (الأخفى).
ويستطرد قائلا: والأدلة على وجود الأخفى كثيرة، منها: المخاوف الشاذة، فكثيرا ما نرى كبارا وصغارا يخافون مما لا ينبغي الخوف منه، كالأماكن المرتفعة، والقطط، فمثل هذه المخاوف لا يمكن أن نجد لها تفسيرا على مستوى العقل الواعي.
ومنها كذلك فلتات اللسان، وهي الكلمات التي نتفوَّه بها دون إرادة منَّا، وعند اكتشاف الفرد لمثل هذه الفلتات فغالبا ما يعتذر عنها، ويقول: لم يكن قصدي أن أقول هذا ...
ومن مظاهر وجوده كذلك ألعاب الأطفال، فمن يُراقب الأطفال يجد أنهم يخرجون من عقلهم الباطن كل ما يُضايقهم ليصبُّوه على ألعابهم سواء بالحركات أو بالكلمات (?).
ومن الأوقات التي تُظهر الأخفى بصورة جلية: لحظات الاحتضار، حيث يكاد العقل المُدرك أن يتوقف ليُفسح المجال للأخفى ليُعبِّر عما بداخله، ويظهر هذا بوضوح من خلال تباين استجابة المحتضرين لمن يُلقِّنهم الشهادة، بل قد نجد الواحد منهم يُردد ما كان يغلب على اهتماماته في حياته.
جاء في كتاب الداء والدواء لابن القيم: أنه قيل لرجل يحتضر: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول ابن القيم: وأخبرني من حضر الشحاذين عند موته فجعل يقول: لله، فِلْس لله، حتى قُضي.
وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده، وجعلوا يلقنونه (لا إله إلا الله) وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشْتَرِ جيد، هذه كذا، حتى قُضي (?).
ما من معلومة ترسخ في اللاشعور إلا وتمر عليه من خلال الشعور أو العقل المُدرك .. مع العلم أن كل فكرة نعتقد بصحتها حتى لو كانت خرافة فإن اللاشعور يقبلها دون مناقشة، أما رسوخها فيه لتُصبح يقينا ومُنطلقا للفعل التلقائي فهذا يحتاج إلى تكرار مرورها إليه من العقل المُدرِك ... وإليك بعض الأمثلة التي تُوضح ذلك الأمر: