فإن قيل: وما العمل فيمن حفظ القرآن كله أو بعضه بطريقة حفظ حروفه فقط؟
من كان هذا حاله - وأغلبنا كذلك إلا من رحم الله- ما عليه إلا أن يبدأ من الآن في فهمه واستخراج جوانب الهداية منه، والتفقه فيه، وليجاهد نفسه على قراءته بترسل وتؤدة، وللشيخ محمد الغزالي تجربة مفيدة في ذلك، يقول رحمه الله:
حفظت القرآن وعمري عشر سنين .. وبداهة ما كنت أعي منه شيئا، والغريب أن هذه الطريقة في الحفظ لألفاظ القرآن صرفني عن معان كثيرة كنت أمر بها ولا أعرفها .. وأنا كبير أقرأ، ولكن لأني حفظت القرآن دون فهم للمعنى أجد نفسي في كثير من الأحيان أمضي دون فهم للمعنى، لأن الحفظ كان يغلب على التدبر أو على إحسان الوعي، وما بدأت أفكر حتى أكرهت نفسي على أن أعود فأدقق النظر في كل ما أقرأ، وأحمل نفسي على ترك هذه العادة التي ورثتها مع الحفظ (?).
أما بالنسبة لتعهد القرآن والعمل على عدم نسيانه فهو أمر ضروري يلزمنا جميعا، قال صلى الله عليه وسلم: «مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعلقة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت» (?).
ولكن هذه المراجعة المستمرة للمحفوظ ينبغي أن تكون بقراءة يفهمها قارئها، والحد الأدنى في ذلك ما قاله ابن عباس لأبي جمرة عندما أخبره بأنه سريع القراءة، وأنه يقرأ القرآن في ليلة، فقال له: لأن أقرأ سورة أحب إليّ .. وإن كنت لابد فاعلا فاقرأ قراءة تسمعها أذنك ويوعها قلبك (?).
لا يخفى على أحد أن الامة الإسلامية في حاجة ماسة إلى من يخرجها من النفق المظلم الذي تسير فيه ..
إنها بحاجة إلى من يقودها وهو يحمل المصباح بإحدى يديه والدواء باليد الأخرى ..
إنها باختصار تحتاج إلى جيل قرآني ذاق حلاوة القرآن، فاختلط القرآن بلحمه ودمه، فشكل شخصيته وأنار قلبه، وهذا لن يتحقق إلا إذا بدأنا بأنفسنا وبأولادنا، فلا ينبغي أن نفوت فرصة صفاء أذهانهم حتى نملأها بمعاني القرآن، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: جردوا القرآن ليربوا فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم (?).
فلنبدأ معهم أمر القرآن من أوله ولنعمل على تأسيس القاعدة الإيمانية في قلوبهم من خلاله، فنعرفهم بالله سبحانه وتعالى بما تحتمله عقولهم، ونطلب منهم أن يبحثوا في القدر الذي يحفظونه عما يعرفهم به، كالتعرف على الله المنعم أو الرحيم مثلا، ثم ننتقل معهم بعد ذلك إلى واجبات العبودية، ونرفع معهم على سبيل المثال شعار: «احفظ الله يحفظك»، وكيف نستدل من القرآن على صحة هذا الشعار، ونربط بينه وبين حياتهم العملية، ونتحدث معهم كذلك عن الشيطان ثم نطلب منهم تعريفا به، وبمداخله من خلال القرآن .. وهكذا في بقية الجوانب العشر التي سبق الإشارة إليها في الفصل الثاني بأسلوب سهل، شيق، قصصي، يراعي سنهم وقدراتهم.
ومما يساعد على ذلك تأكيدنا الدائم لأولادنا بأن المعنى هو المقصود من التلاوة، فلا بديل عن فهم المعنى لما سيتم حفظه، ولا داعي للاستعجال في الكم، وليكن ماثلا أمام أعيننا دوما قول أبي الدرداء لمن جاء يبشرة بأن ابنه قد جمع القرآن فقال له: اللهم غفرا، إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع (?).
فلنجعل أبناءنا ممن يسمع للقرآن ويطيع، وهذا لن يتأتى إلا بتعلم الإيمان قبل القرآن، مما سيجعل فترة حفظ السورة طويلة - نسبيا - وبخاصة في البداية، لكننا سنكون قد استفدنا من إمكاناتهم وفطرتهم السليمة في ترسيخ معاني القرآن وبناء تصوراتهم الصحيحة وشخصياتهم المتوازنة .. فهل هناك من يزهد في هذه الثمار ولا يتمناها لأبنائه؟