في هذه البيئة الكريمة العزيزة بالعلم نشأ ابن العربي، ومنها أطل على الدنيا في السنوات الأولى من حياته. وعن هذين الرجلين -أبيه وخاله- تلقى ثقافته الأولى وأساليب تربيته، يساعدهما على ذلك أستاذه الخاص أبو عبد الله السرقسطي. وقد أعانت هؤلاء الثلاثة على مهمتهم في تكوين صفات المروءة فيه مواهب ممتازة من الذكاء وسعة المدارك ودماثة الخلق تحلى منها هذا الناشئ الممتاز بكل ما يهيئ له نضوج رجولته المبكرة، حتى قال هو عن نفسه (حذقت القرآن وأنا ابن تسع سنين، ثم ثلاثا لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ستة عشر سنة وقد قرأت من الأحرف -أي من القراءات- نحو من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه. وتمرنت في الغريب والشعر واللغة) .
رحلته عن إشبيلية: ولما بلغ السابعة عشر قضى الله بسقوط دولة آل عباد في سنة 485، فخرج به أبوه من إشبيلية يوم الأحد مستهل ربيع الأول قاصدا شمال إفريقية فكان أول نزولهم في ثغر أنشئ من سنين قريبة على ساحل بلاد الجزائر، وهو ثغر (بجاية) الذي اكتشف مكانه محمد بن البعبع من رجال تميم بن المعز بن باديس، واتفق على إنشائه وتمصيره في سنة 457 مع الناصر بن علناس ابن عم تميم المنافس له، وجعلا هذا المرفأ ملتقى الطرق على البحر الأبيض بين الأندلس والمغرب والجزائر وتونس، فنزل ابن العربي مع والده وأسرته في ثغر بجاية ولبثوا فيه مدة تتلمذ فيها ابن العربي على كبير علماء هذا البلد أبي عبد الله الكلاعي، ثم ركبوا البحر مشرقين إلى ثغر (المهدية) ، وفيها أخذ فتانا عن عالمها أبي الحسن بن علي بن محمد بن ثابت الحداد الخولاني المقرئ، قال ابن العربي (فكنت أحضر عليه كتابه المسمى بالإشارة وشرحها وغيرهما من تآليفه، وكان في ذلك بالمهدية في شهور سنة 485) وفي المهدية أيضا أخذ عن الإمام أبي عبد الله محمد بن علي المازري التميمي (453 - 536) .