بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ فَيُجْعَلُ كَذَلِكَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» وَعَنْ شُرَيْحٍ: جَاءَ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِبَيْعِ الْحَبِيسِ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى وَغَيْرَ ذَلِكَ وَالْمِلْكُ فِيهِ لِلْوَاقِفِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلَّاتِهِ إلَى مَصَارِفِهَا وَنَصْبِ الْقَوَّامِ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَنَافِعِهِ فَصَارَ شَبِيهَ الْعَارِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا وَلَا تَصَدُّقَ عَنْهُ إلَّا بِالْبَقَاءِ عَلَى مِلْكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ، لَا إلَى مَالِكٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مَعَ بَقَائِهِ كَالسَّائِبَةِ. بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُعْجَمَةِ. وَقَوْلُهُ (إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ) لِبَيَانِ نَفْيِ اسْتِبْعَادِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا تَدْخُلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْمَسْجِدِ لَازِمٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ إخْرَاجٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْخُلَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَلَكِنَّهَا تَصِيرُ مَحْبُوسَةً لِنَوْعِ قُرْبَةٍ قَصَدَهَا فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» أَيْ لَا مَالَ يُحْبَسُ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، لَكِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ هَذَا الْأَثَرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، وَيَقُولُونَ الشَّرْعُ أَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ طَرِيقٍ يَكُونُ فِيهِ حَبْسٌ عَنْ الْمِيرَاثِ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَقَوْلُهُ (جَاءَ مُحَمَّدٌ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لُزُومَ الْوَقْفِ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَأَنَّ شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (كَالسَّائِبَةِ) هِيَ النَّاقَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ لِنَذْرٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ: إذَا قَدِمْت مِنْ سَفَرِي أَوْ بَرِئْت مِنْ مَرَضِي فَنَاقَتِي سَائِبَةٌ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْوَقْفَ بِمَنْزِلَةِ تَسْيِيبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لَهُ مُنْتَفَعًا بِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، فَكَذَا إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ أَوْ دَارِهِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ غَيْرَ مَشْرُوعٍ لَمَا جَازَ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ فِي الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ لِأَحَدٍ.