وسأذكر بعد هذا الباب قطعة من أشعار الكتاب يظهر فيها مرماهم، ويستدل به على مغزاهم، ويعرف حسن اختيار الجاحظ فيما ذهب إليه من تفضيلهم، ويشهد لي بجودة الميز، وفرط التثبت والإنصاف، إن شاء الله تعالى.
والكتاب أرق الناس في الشعر طبعاً، وأملحهم تصنيعاً، وأحلاهم ألفاظاً، وألطفهم معاني، وأقدرهم على تصرف، وأبعدهم من تكلف.
وقد قيل: الكتاب دهاقين الكلام، وما نزيدك على قول إبراهيم بن العباس الصولي بين يدي المتوكل حين أحضر لمناظرته أحمد بن المدبر فقال ارتجالاً:
صد عني وصدق عني الأقوالا ... وأطاع الوشاة والعذالا
أتراه يكون شهر صدود ... وعلى وجهه رأيت الهلالا
فطرب له المتوكل واهتز ووصله، وخلع عليه وحمله، وجدد له ولاية. وقيل له في التلطف والاستعطاف أكثر من هذا، وأي مدح أبرع وأبدع من قوله في الفضل بن سهل:
لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل
فباطنها للندى ... وظاهرها للقبل
ونائلها للغنى ... وسطوتها للأجل
أليس هذا الماء الزلال، والسحر الحلال؟؟ ولقد أجاد ابن الرومي في تناوله هذا المعنى حين قال:
مفبل ظهر الكف، وهاب بطنها ... له راحة فيها الحطيم وزمزم