فشربن ثم سمعن حساً دونه ... شرف الحجاب، وريب قرع يقرع

فنكرنه فنفرن فامترست به ... هوجاء هادية وهادٍ جرشع

فرمى فأنفذ من نحوص عائط ... سهماً فخر وريشه متصمع

فبدا له أقراب هادٍ رائغاً ... عنه فعيث في الكنانة يرجع

فرمى فألحق صاعدياً مطحراً ... بالكشح فاشتملت عليه الأضلع

فأبدهن حتوفهن فهارب ... بدمائه أو بارك متجعجع

فأنت ترى هذا النسق بالفاء كيف اطرد له، ولم ينحل عقده، ولا اختل بناؤه، ولولا ثقافة الشاعر ومراعاته إياه لما تمكن له هذا التمكن.

واستطرفوا ما جاء من الصنعة نحو البيت والبيتين في القصيدة بين القصائد، يستدل بذلك على جودة شعر الرجل، وصدق حسه، وصفاء خاطره؛ فأما إذا كثر ذلك فهو عيب يشهد بخلاف الطبع، وإيثار الكلفة، وليس يتجه البتة أن يتأتى من الشاعر قصيدة كلها أو أكثرها متصنع من غير قصد؛ كالذي يأتي من أشعار حبيب والبحتري وغيرهما. وقد كانا يطلبان الصنعة ويولعان بها: فأما حبيب فيذهب إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه، مع التصنيع المحكم طوعاً وكرهاً، يأتي للأشياء من بعد، ويطلبها بكلفة، ويأخذها بقوة. وأما البحتري فكان أملح صنعة، وأحسن مذهباً في الكلام، يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة. وما أعلم شاعراً أكمل ولا أعجب تصنيعاً من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطف أصحابه شعراً، وأكثرهم بديعاً وافتتاناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب، غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعاً منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد؛ لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، ولأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقاً سابلة، وأكثرا منها في أشعارهما تكثيراً

طور بواسطة نورين ميديا © 2015